أعراف الكتابة الحديثة

 

في رواية "خوارم العشق السبعة" لجمال بوطيب


منشور بملحق العلم الثقافي ليوم الخميس 16 أبريل 2015
عبد القهار الحَجَّاري

تنهض الكتابة الإبداعية عند جمال بوطيب وضمنها روايته "خوارم العشق السبعة (سوق النساء2)"(1) على تجربة فنية وعلمية نظرية وعملية ومراس ودربة، تخبر مجاهيل الماضي الممتد، والحاضر المعيش، لاستشراف الآتي، وتبني تراكمها الكمي والنوعي بفضل تزود الدكتور جمال بوطيب الكاتب المبدع والأكاديمي الباحث والفنان المرهف بزلال معرفي من مشارب ثرة، ينهل فيها من معين التراث والحداثة على حد سواء، ويخوض من دون هوادة في فعل التجريب الذي يراكم في غماره منجزا أدبيا هائلا، ما فتئ حقله ولاّدا،  يمتد من الإبداع إلى النقد والتنظير ومن القصة إلى الشعر والرواية، هذا عدا حضور جمال في مملكة الأصباغ والألوان والأبعاد كفنان تشكيلي.
تمثل رواية "الخوارم" الجزء الثاني لرواية "سوق النساء أو ص ب 26"(2). والسرد فيها لعبة متقنة، تفصح عن كفايات عالية متفردة، وتنم عن رؤية حداثية، تهجس بتثوير الكتابة الروائية وشكلها، تعتمد التجريب اختيارا ذا حدود متحركة ولانهائية، تجعل من جمالية اللغة وسحر العتبات متكئا، وتتخذ شعرية السرد ديدنا، وتتوسل بأعراف الكتابة توظيفا، كل ذلك على أنقاض الصروح البالية للتقليدوية الروائية.
تهجس خوارم العشق السبعة (سوق النساء2) بهموم الإنسان العربي من خلال العلاقات العاطفية ممثلة في العلاقة بين عبد الرحيم دباشي ولبانة الربيعي، في فضاء مديني ساحر وساحق في آن معا، ساحر بعوالمه العصرية، وساحق بنزوعه نحو تشييء الإنسان وتسليعه، في غمرة انهيار القيم، في سوق كبرى للنساء والرجال خاضعة لمنطق العولمة وقوانين الرأسمال المادي، وانهيار الرأسمال الرمزي وضحالة القيم. وتبدو البادية عبر هذا الفضاء من خلال القبيلة والضريح والمثل الشعبي معقلا للبنى الثقافية المضادة لروح الحداثة، فضاء يزج بالبطلين (عبد الرحيم ولبانة) في دوامة اغتراب عاطفي. تعصف بهما علاقة حب صاخبة عنيفة تركب ظهر مارد، لكنها متجذرة خالدة لا تقتلها وصفة حب، بالرغم من انفصال طرفي العلاقة المشوبة - وهنا المفارقة - بالشك والخوف والحيطة والحذر والهجر والسفر، مفعمة بالشوق والعشق وطلب الوصال في آن معا.

وتعتبر الأعراف الحديثة في الكتابة الروائية، إحدى أهم الآليات التي تنهض عليها عملية التنامي السردي في رواية "الخوارم" لجمال بوطيب، يتمكن منها الروائي بحرفية عالية، وإبداعية متوقدة، ونزوع جامح نحو الابتكار والتأسيس.

1-العرف التجنيسي
تفصح "الخوارم" عن جنسها الأدبي في الصفحة الأولى للغلاف وفقا للعرف التجنيسي المتبع، حيث أثبت اسم المؤلف وعنوان المؤلف وجنسه، لكن الجديد في تجنيس "لخوارم" عبارة "يليه كتاب وصفة قتل الحب، لتركية صدوعي" على غرار كثبر من الكتب التراثية وعنونتها المزدوجة مثل "المغني ويليه الشرح الكبير" أو "كتاب الزهد ويليه كتاب الرقائق" أو أيضا "متن الأجرومية ويليه ملحة الإعراب"... والأمثلة لا حصر لها في التراث العربي لمثل هذه العنونة. فالكتاب رواية لكنها مرفقة بكتاب آخر.
يشار إلى المرفق في غلاف رواية "الخوارم"، وهذا غير مألوف في تجنيس الرواية، ولا حتى في الأشكال والأجناس الأخرى للكتابة الحديثة. وفي إطار هذه اللعبة التجنيسية، يلاحظ القارئ تكرار مصطلح "رواية" في صفحات الكتاب، وتحديدا في بعض العناوين والجمل منها مثلا "شخوص الرواية ص7"، "ما قبل الرواية ص11"، "صرح المؤلف في حفل تقديم روايته ص12"، "الرواية كاملة غير منقوصة ص13"، "ملخص الرواية ص15" وورد مصطلح "رواية" في أكثر من موضع في الصفحة 119 والمقصود بها في جميع هذه الاستعمالات التذكير بجنس هذا المنجز الأدبي والتأكيد عليه أمام الانزياحات التي "يقترفها" ضدا على الشكل والجنس الأدبيين بمفهوميهما التقليديين.

2- العرف الإرفاقي
عرف الإرفاق من أعراف الكتابة التي يوظفها الروائي جمال بوطيب في روايته "خوارم العشق السبعة". ونجد ضمن عرف الإرفاق في هذه الرواية مجموعة من الوثائق الافتراضية، تدخل في صميم الإبداع، ولا وجود واقعي لها خارج العمل الروائي، وقد جاءت فكرتها من الملاحق التي ترفق بمؤلفات النقد والبحوث ذات الطابع العلمي. ومرفقات الرواية هي:
بطاقة تقنية ص5
تنبيه ص6
شخوص الرواية ص7-9
وقع الحافر على الحافة ص10
ما قبل الرواية ص11

وأهم مرفق في "الخوارم" على الاطلاق هو "كتاب وصفة لقتل الحب لتركية صدوعي"، وهو مرفق منفصل عن النص شكليا بغلاف خاص ملون ومصمم تصميما عصريا تحمل صفحته الأولى لوحة تجريدية مكونة من خطوط وألوان باردة خالية من حرارة الحب، يغلب عليها البني والأزرق الداكنين، ملائمة لفكرة قتل الحب، وجُعلت خلفيةً لصفحتي غلاف المرفق الأولى والأخيرة. وتصدرت هذه اللوحة الصفحة الأولى من هذا المرفق الإبداعي، وتحتها العنوان "وصفة لقتل الحب" كتب بخط الحر العربي بلون بني داكن ذو إيحاء سويدائي ينم عن الحداد، وبإطار كاليغرافي أبيض كأنه الكفن أو بياض الموت. وفي الصفحة الثانية حيث خلفية اللوحة طاغية بإحساسها البارد يتوسط العنوان الحيز في شكل مائل "وصفة لقتل الحب".
ومما لا شك فيه أن للمرفق الموسوم ب"وصفة قتل الحب" استقلالية فنية، لكنه مدمج عضويا في جسد العمل الروائي، فهو هنا مجرد خدعة، لأن كتاب "وصفة لقتل الحب" جزء غير مستقل عنها. فاستقلالية هذا المرفق شكلية. ولئن كان غلاف "الوصفة" يوحي باستقلاليته، من خلال لونه واختلاف ورقه الناعم الواقع في سمك أقل من غلاف الرواية وأكثر من ورقها، فضلا عن تلك الإشارة في غلاف الرواية "يليه" التي توهم بأنه مستقل، فإن استمرار ترتيب صفحات الرواية مرورا ب"الوصفة" التي تقع بين الصفحة 39  والصفحة 62 يعطي انطباعا أوليا قبل القراءة عن احتمال أن يكون هذا المرفق جزء لا يتجزأ من الرواية. وهذا ما يتأكد للقارئ الفطن من أول قراءة، فيتبين له أن المرفق لا يرتبط شكليا بالترقيم، وإنما ارتباطه عضوي بالسرد وتناميه وبوحدة هذا العمل الروائي الشيق.
ويستهدف منطق الرواية بهذا التجريب المرتكز على عرف الإرفاق خلخلة اليقينيات المعيارية لجنس الرواية والمتصلة بما يسمى "قواعد الكتابة الروائية"، وتكسير جمودها والبحث عن الأفق المستحيل أو الدرجة الصفر للكتابة بتعبير بارط، و"خلق كتابة بيضاء متحررة من كل عبودية لنظام لغوي ملحوظ"(3).

3- العرف التواصلي
يتواصل السارد مع القارئ في هذه الرواية في أكثر من موضع. وتمارس الرواية العرف التواصلي باعتباره محاورة للقارئ وإشراك له في الشأن السردي :
"أعتذر، القصة عندي، أقصد مكتملة في ذهني، فقط لا أعرف من أين أبدأها"(4)
ويريد السارد في موضع آخر أن يوهم القارئ بأن "وصفة لقتل الحب" كتاب مستقل مرفق بالرواية، وليس جزء منها، يقول:"بناء على هذا التنامي غير المتوقع في الأحداث، يقترح عليكم السارد أن تتوقفوا الآن عن القراءة، وأن تقرأوا كتاب"وصفة لقتل الحب لتركية صدوعي") (5) وفي موضع آخر من "ملخص الرواية"، في الخرم الأول يريد الكاتب جعل السرد متعة متبادلة مع القارئ من خلال إشراكه في الحدث. ومن خلال هذا التواصل يطلب السارد من القارئ أن يقوم بما قامت به المتعطرة لبانة :
"يقترح عليكم السارد أن تتوقفوا الآن عن القراءة، وتتحملوا عناء رش قطرات عطر، فالتعطير ينبغي أن يصير بدعة محمودة تليق بقراءة سيرة دماء صارت حبرا"(6).

4- العرف النقدي
يحضر العرف النقدي في رواية "خوارم العشق السبعة"، باعتباره توظيفا للغة الواصفة وإدماجا لها في بنية العمل الإبداعي. ويتوسل العرف النقدي هنا بمفاهيم النقد الأدبي في صياغة فقرات، تستهدف نقد تمثلات القارئ حول علاقة الكاتب بأحداث الرواية. تعتقد كثير من القراءات الساذجة والسطحية بمطابقة الشخصية الرئيسة أو إحدى الشخصيات الأخرى للكاتب، وبعضها تسقط كل ما جاء في الرواية على حياة المؤلف. ونقرأ في المرفق الموسوم ب"ما قبل الرواية" تحت عنوان "المؤلف ناقدا":
"تبعا لرسالة القارئ الكريم تعتبر رواية سوق النساء في رأيه الحصيف سيرة ذاتية، ومؤلفها يعاني من عقدة"(7) ص11
ويسترسل السرد على هذا المنوال، فيقدم إحالة إلى مؤلف نقدي يسير على نهج القارئ، لكن هذه المرة ليس على أساس تمثلات مغلوطة، بل بناء على نقد استعمال منهج التحليل النفسي لفهم "سوق النساء"
"... ومؤلفها يعاني من عقدة، ربما لذلك حللها الناقد المغربي حسن المؤذن تحليلا نفسيا في كتابه "الرواية العربية : قراءات من منظور التحليل النفسي..."(8).

5- العرف التنظيري
نلمس هذا العرف في "الخوارم" باعتباره هنا خوضا في صياغة أسس وقواعد الكتابة. ينظر السارد للقصة وقواعدها بلغة السرد في الخرم الأول. فيستعرض مكونات القصة وتقنياتها، بهدف تحفيز القارئ لإعمال فكره في منطق السرد وآليات اشتغاله والأركان التي ينهض عليها، قصد دفعه للتفاعل مع أحداث الرواية.
"أليس للقصة مكونات؟ دعنا نتحدث بالمكونات.
 المكان:
محطة القطار- فاس.
الزمان:
ربع ساعة قبل انطلاق قطاري/ قطارها/ قطارنا
الشخصيات:
أخي الأكبر الذي ودعني خارج المحطة..."(9).
"تنفعل الشخصية المتعطرة، وتعتبر الكاتب لم يوفق في الحديث عنها، لذا تقرر أن تتكلم هي بنفسها عن نفسها"(10).
إن رواية "خوارم العشق السبعة (سوق النساء 2) مخاطرة مقدامة في البحث عن كتابة روائية مستحيلة، تتظافر فيها اللغة الروائية بأعراف الكتابة الحديثة، ما يزج بالقارئ في لعبة السرد الشيقة والمحيرة تاركة في ذهنه ألغازا وتساؤلات، تدفعه للقراءة وإعادة القراءة. كتابة متمنعة على القبض على جماع جسدها، كلما خلت أنك أدركتها تملصت منك وتقدمت خطوك نحو الأمام، كتابة لا تفتأ تأخذنا إلى آفاقها الرحبة، آفاق المستقبل.

هوامش


(1)  جمال بوطيب، خوارم العشق السبعة (سوق النساء2)، فاس منشورات مقاربات، الطبعة الأولى، 2009
(2)  جمال بوطيب، سوق النساء أو ص ب 26، آسفي، إ م ب هـ (IMBH) الطبعة1، 2006
(3) رولان بارط، الدرجة الصفر للكتابة، ترجمة محمد برادة، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، ط3/ 1985، ص 91
(4) خوارم العشق السبعة (سوق النساء2)، ص 16
(5) نفسه، ص 37
(6) نفسه، ص22
(7) نفسه، ص11
(8) نفسه، ص11
(9) نفسه، ص16
(10) نفسه، ص17

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال