سيد الوكيل
من المؤلف إلى القاريء
بقلم: سيد الوكيل
منذ البداية كانت النظرية الأدبية ممسوسة بهاجس العلة وهو هاجس فلسفي أرسطي يعطي التفكير العقلي وحده حق إدراك الجمال الأدبي مهملاً غرائز إدراكية أخرى، ومن ثم يكسبه طابع الصرامة العلمية ،إذ أن سؤال العلة هو سؤال الحقيقة، والحقيقة مطلقة وخالصة. إنه التصور المثالي الذي يسعى وراء المعنى لا لشيء إلا للمعنى في حد ذاته، إذ ما الذي يمنح النص أدبيته؟
بل يمكن القول إن معنى الأدبية ذاته قرين مولد النظرية الأدبية، فمن المعروف أن الشكلانية سعت إلى أن تؤسس لنفسها كنظرية أدبية بالمعنى العلمي للمرة الأولى. وكان السؤال الذي ارتكزت عليه النظرية وسعت إلى الإجابة عليه .. أين تكمن أدبية النص الأدبي؟
لقد قامت الشكلانية بأولى خطوات العسف في التعامل مع النص عندما فصلت بشكل حاسم بين مضمون العمل وشكله. وكان حجتها أن هذا الفصل مجرد إجراء نقدي، حيث يرجئ الناقد المعنى باعتباره مازال في بطن الشاعر، ويعمل على فحص الشكل ويعطي اهتماماً كبيراً باللغة كأبرز تجسيدات الشكل..
إن هذا الاهتمام باللغة ينمو على نحو واسع مع توسع علوم اللسانيات، وظهور مفهوم العلامة (دال ومدلول) والتفريق بين اللغة والكلام، حيث تعمل اللغة كنظام أو قانون تتكون وحداته الأولية من العلامة اللغوية. لقد أحدث هذا المفهوم انقلاباً مدهشاً فى الدراسات النقدية تجاوزت الأدب وامتدت إلى مجالات أخر مثل علوم الأنثروبولجيا. ولا شك أن هذا الاهتمام الكبير بدراسة حركية اللغة جعل النص الأدبي فى حد ذاته نقطة انطلاق لأي ناقد. لقد عمق هذا فى اغتراب المبدع ـ نفسه ـ وأكد نفيه وإقصائه خارج أى اهتمام نقدي، وهكذا تضرب البنيوية صفحاً ليس عن المؤلف فقط باعتبار موته، بل عن أى شيء يقع خارج النص، فالمؤلف وتاريخه النفسي والاجتماعي، ومحيطه الثقافي وقصديته، كل هذه أشياء خارج دراسة الأدبية، وهى ليست مفيدة فى دراسة النص الأدبي بل ربما تعوقنا عن فهمه.
ربما أشياء كهذه كانت مفيدة فى النقد التاريخي، عندما كان الناقد يبدأ بمقدمة وافية عن المؤلف تكون أساساً لتفسير المضامين التي يحتويها النص، ومن ثم كان المؤلف مركزاً لقراءة النص، أما في رأى (البنيويون) فإن معرفتنا بالمؤلف لن تخبرنا بأى شيء إلا عن المولف نفسه، والعكس صحيح تماماً، إذ أن معرفتنا بالنص يمكنها أن تقدم لنا تعريفاً أكثر عمقاً بالمؤلف، وذلك باعتبار أن المؤلف ليس شخصاً من لحم ودم يعيش خارج النص، إن هذا النوع من المؤلفين قد مات منذ (بارت) الذى أصبح فيما بعد أبرز نقاد البنيوية والرافضين لها، فنحن عندما نفهم المؤلف كشخصية افتراضية يرتبط وجودها بنص معين، لايمكننا فهمها أو إدراكها إلا من خلال هذا النص. إن المؤلف الحقيقي للنص ليس صاحبه، بل هو ذلك المتضمن فيه، وبذلك يكون أقرب في مفهومه من الذات الساردة.
النص الأدبى هكذا هو دليل وجوده الوحيد، لأنه المادة الخام التي تقبل التحليل المنهجي للوصول إلى وحداته الأوليه، ومن ثم اكتشاف نظام عمل هذه الوحدات، النص يقبل الإجراءات والتطبيقات التى يستحيل تطبيقها على المؤلف، وبهذه الطريقة فإن الانتصار للنص ـ فى حقيقة الأمر ـ ليس سوى انتصار للمنهج والعلمية، أو بالأحرى النظرية نفسها، وفيما بعد يظهر هذه اليقين العلمي خطاياه التي حولت النص الأدبي إلى كتلة مصمتة لايمكنها أن تبوح بأسرارها إلا للمتخصصين حاملي المناهج والتطبيقات النظرية، ويعنى هذا ـ أيضاً ـ نفى القاريء بمفهومه العام، وهذا القاريء هو الذي سيعطي النص الأدبي معنى التعددية ـ فيما بعد ـ عندما تظهر اتجاهات القراءة التى حرصت على أن تحرر نفسها من مصطلح (النظرية) لتشير إلى نفسها كاستراتيجية كبرى تقبل صيغاً لانهائية.
إن هذا التصحيح يخفف كثيرأ من حدة الصرامة العلمية فى التعاملات النقدية للنص الأدبي، ولكنها في المقابل تثير جدلاً واسعاً حول معنى القراءة ومفهوم القاريء، وهكذا يدخل القارئ دائرة الاهتمام النقدي، غير أن هذا السعى مازال موقوفاً على تفكير ( عِلّىٍ) يرتبط بحقيقة وحيدة مطلقة، نبحث عنها مرة عند المؤلف أو فى الن ، ونعتقد ـ أخيراً ـ أنها موجودة عند القاريء وإن كانت هذه المرة تدخل في دوائر لامتناهية من النسبية، ومن ثم تعلن اتجاهات القراءة عن موت النص كتعليق ساخر على من أعلنوا من قبل موت المؤلف. وهكذا فى النقد كما فى الحياة، من قتل يقتل ولو بعد حين..
Tags:
مقالات