في الكتابة والغناء الجماعي المدرسِيَيْن

المثاقفة والوعي الكوني من خلال الكتابة والغناء الجماعي المدرسِيَيْن *


 بحث منشور بمجلة الفنون العدد 127 أبريل/نيسان 2012

تقديم

عندما نتحدث عن أدب وثقافة الطفل فإننا نمس أحد أخطر المجالات الثقافية والتربوية الذي يستدعي الكثير من الحذر في تبني المقولات

لكونه يتعلق بإعداد أجيال المستقبل وتشكيل ثقافتهم ومن ثم هويتهم. هل يمكن القول إن ضرورة الحفاظ على هوتنا وثقافتنا تستدعي اعتبار أي تأثر بمقولات القيم العصرية من قبيل الاستلاب الثقافي والخضوع للغزو الثقافي الذي يستهدف حضارتنا وتاريخنا وهويتنا؟ وهل منظومة القيم الكونية هي من صميم الثقافة الغربية. وهل تأثر ثقافتنا ونظامنا التربوي بها، من شأنه أن يشكل مصدر خطر على هويتنا المغربية بكل فسيفسائها اللسنية والثقافية ؟

لمطارحة هذه الإشكالية لا بد أن نأخذ بعين الاعتبار مفهوم المثاقفة بكل ما تعنيه من تبادل مشترك للتأثير والتأثر الثقافيين من منطلق وحدة الفكر الإنساني والمعرفة الإنسانية واتجاه تطور الإنسان في مختلف بقاع الأرض، نحو السمو بإنسانيته أكثر فأكثر، في ارتباط بالثورة العلمية والتكنولوجية وصيرورة صراع الإنسان من أجل إخضاع الطبيعة ومآل هذا الصراع في ظل التدمير غير المسبوق للطبيعة ومواردها والمآسي الناجمة عن الاستعمار والحروب المدمرة والصراعات الإثنية والعقدية والدينية والحضارية... مما أصبح يطرح وحدة مصير الإنسانية في ضوء الأخطار المحدقة بالأرض والإنسان.

ونتيجة لذلك يبلور الفكر الإنساني منظومة القيم الكونية التي لا يكاد يختلف عليها الإنسان في شتى أنحاء المعمور بالرغم من الاختلاف الثقافي والديني والحضاري. وتجلت هذه المنظومة في تطور البيداغوجيا الحديثة المذهل، فصرنا اليوم نخطط للتربية انطلاقا من بيداغوجيات تحرص على ترسيخ القيم التي يحتاج إليها الإنسان الكوني المنشود في المستقبل، المتجاوز لهمجية أجداده الذين تسلطوا على الطبيعة والبشر، وصار الإنسان في حاجة إلى ثقافة للتسامح والاعتراف بالآخر وقبول الاختلاف والحرية واحترام الطبيعة والبيئة...

في هذه المساهمة نقدم تجربة لثقافة وأدب الطفل متفتحة على فعل المثاقفة مع الآخر من أجل اكتساب وترسيخ قيم العصر الكونية عبر أدب وثقافة الطفل ومن خلال ورش الكتابة والغناء الجماعي المدرسيين، هذه التجربة ممثلة ببلدة ابن الطيب بمنطقة الناظور شمال شرق المغرب بمدرسة ابن الخطيب في انفتاحها على معهد أنامل للتعليم الموسيقي وفعاليات مجلة نغم، ويمتد عمر هذه التجربة لأكثر من عقد من الزمن.


1- في حد المثاقفة والوعي الكوني

تتطرق هذه الخطوة إلى تعريف مفهومي المثاقفة والوعي الكوني، بهدف التمكن من استخدام هده الأدوات المفهومية استخداما صحيحا وواضحا.


1-1 مفهوم المثاقفة

مثاقفةٌ صيغتها مُفاعَلـَةٌ، تدل على المشاركة، وقد تدل على المدافعة والمغالبة، وهي مصدر لفعل ثاقف يثاقف، صيغة فعلية للتعدي على وزن فاعَلَ يُفاعِلُ التي تفيد التأثير والتأثر بحيث لا يكتفي الفعل بفاعله بل يتعداه إلى مفعول به فهي إذن صيغة للتعدي بالمعنى النحوي: ثاقَف قومٌ قوماً، بمعنى أثروا فيهم وتأثروا بهم ثقافيا. فالتأثير الثقافي هنا متبادل بين طرفين أو أكثر. وقد يكون محكوما بدافع المشاركة أو عكس ذلك بالنزوع إلى المدافعة والمغالبة أما التثاقف فتتخذ صيغة "التفاعل "للدلالة على الاشتراك مع المساواة أو التماثل، وتحمل معنى التوازن، والتعادل.

والمثاقفة Acculturation مفهوم يرجع إلى سنة1880 طرحه الأنثربولوجيون بأمريكا وانتقل إلى مختلف الحقول المعرفية. وهي احتكاك مباشر ودائم بين مجموعات من الأفراد لها ثقافات مختلفة. ينتج عنها تعديلات في الأنماط الثقافية الأصلية لمجموعة واحدة أو أكثر. وتعني المثاقفة في علم النفس الاجتماعي، غالبا عملية اكتساب التعلمات التي بواسطتها يتلقى الطفل ثقافة الإثنية أو الوسط الذي ينتمي إليه. ويفضل روجي باستيد Roger Bastide استخدام لفظ تثقيف enculturation. وهي عملية نقل ثقافة المجموعة إلى الطفل كما تقترح مارغريت ميدMargaret Mead. ونعني بها في هذا السياق ممارسة أدب وثقافة الطفل، متجلية بالخصوص في الكتابة والغناء الجماعي في تفاعل مع ثقافة الآخر. فالمثاقفة هنا مصنفة إلى مثاقفة داخلية أي بين تلاميذ من مجموعات ذات ثقافة متباينة وليست مختلفة تمام الاختلاف، في نفس المنطقة الجغرافية أو في منطقة أخرى داخل الوطن. ومثاقفة خارجية بين ثقافتنا الوطنية وثقافات أخرى عبر المعلومة ووسائل الاتصال الحديثة.


2-1 مفهوم الوعي الكوني

الوعي حالة عقلية يكون فيها العقل بحالة إدراك وعلى تواصل مباشر مع محيطه الخارجي عن طريق منافذ الوعي التي تتمثل عادة بحواس الإنسان الخمس. كما يمثل الوعي عند العديد من علماء علم النفس الحالة العقلية التي يتميز بها الإنسان بملكات المحاكمة المنطقية، الذاتية (الإحساس بالذات) ، والإدراك الذاتي والحالة الشعورية والحكمة أو العقلانية والقدرة على الإدراك الحسي للعلاقة بين الكيان الشخصي والمحيط الطبيعي له.

الوعي الكوني هو ثورة في العقليات والذهنيات بتعريف الموسوعة الكنَدية انطلاقا من مؤلَّف ريتشارد موريس بيك Richard Maurice Bucke الموسوم ب" الوعي الكوني" Cosmic Consciousness الذي نشر سنة 1901 وأعيد نشره سنة 1989. وهو دراسة في ثورة الوعي البشري. إنه كتاب واسع الانتشار، يعتبر أن الإنسانية تعيش مرحلة تطور وعيها بذاتها وبالعالم.

فالوعي الكوني، إذن هو حالة إدراك عقلية من درجة عالية، ومرحلة في تطور ذهنية الإنسان تمثل وعيه المتقدم بالكون وبموقعه كذات من المحيط الذي يعيش فيه. مما يؤهله لبلورة منظومة من القيم الإنسانية ذات الطابع الكوني.

في ورشات الكتابة نؤسس للقيم الكونية ونجذرها في تربتنا الثقافية المحلية والوطنية. وفي ورشات الغناء الجماعي نكتسب ثقافة هذا اللون من النشاط الموسيقي وهو من التعبيرات الفنية – التربوية لثقافات أخرى أيضا. ولعل الموسيقى هي اللغة الأقدر على توحيد البشر، باعتبار لغتها الموحدة كونيا؛ ومن مستوياتها: النطق أو التهجي déchiffrage، التدوينnotation والتأويل interprétation والتذوق appréciation بكل ما تحمله هذه المفاهيم من أبعاد علمية وفلسفية.


2- من صيغ بناء ثقافة وأدب الطفل في المدرسة

يمكن أن تتضافر مختلف الدروس والأنشطة ، خاصة تلك الحاملة وبشكل واضح للقيم الكونية، من أجل بناء ثقافة وأدب الطفل في المدرسة، تساهم في توسيع مدارك الطفل وآفاق تفكيره ومعارفه. وتقوي روح الخلق وملكات الإبداع لديه، بما يبني شخصيته بناء متكاملا ومتينا. لكن من الضروري اعتماد صيغ أخرى لبناء ثقافة وأدب الطفل في المدرسة ذات فعالية أكثر من بينها صيغة الورش التربوي، ومنه ورش الكتابة والغناء الجماعي المدرسيين، الألعاب الإيقاعية، العزف الجماعي والفردي، التمثيل، التربية تشكيلية، التربية البيئية والصحية وغير ذلك. وسنقتصر هنا فقط على الكتابة والغناء الجماعي.


1-2 ورش الكتابة

تعتبر مواد القراءة والتعبير الشفوي والتعبير الكتابي الدعامات الكبرى لبناء الكفاية اللغوية. ومن شأن ممارستها بشكل منتظم ومستمر أن يطور قدرات التلاميذ ويرفع من مستوى الإنجازلديهم. وتؤكد البيداغوجيا الحديثة على تجنب التلقين وتمكين الطفل من تقوية قدراته وتوسيع مكتسباته ومداركه، بواسطة الطرائق الفعالة التي تهدف إلى إشراك أوسع لجماعة الفصل. وتنويع تقنيات التنشيط والاعتماد على التفريد والعمل بالمجموعات حسب ما يقتضيه كل موقف.

ويمكن للورش التربوي المختص بالكتابة أن يوفر الكثير من التقنيات التربوية الناجحة، إذا ما تم التخطيط له بإحكام وتشغيله بالمرونة والبراعة اللازمتين. وانطلاقا من تجربتنا المدرسية، يمكن للورش التربوي أن يكون من أنشطة الفصل العادية. كما يمكن أن يكون نشاطا موازيا في إطار الأندية التربوية. وسأقدم هنا نموذجين للورش التربوي المختص بالكتابة الأول من خلال وضعيات تعلمية بالفصل الدراسي للمستوى الخامس. والثاني من خلال النادي التربوي الذي ضم تلاميذ من المستويات: الرابع والخامس والسادس، وذلك في إطار تحضير العدد الثاني من مجلة مدرسة ابن الخطيب الموسومة بـ"ابن الخطيب" والتي فازت بالجائزة الأولى للمجلات المدرسية بإقليم الناظور سنة 2006 .


1-1-2 ورش الكتابة الأدبية

ومن أنشطة الورش التربوي بالفصل الدراسي للمستوى الخامس، للموسم الدراسي 2010/ 2011، نسوق نموذجا يستثمر دروس مختلف المواد الدراسية من أجل إكساب الأطفال تقنيات الكتابة الأدبية في القصة والشعر والمسرحية والمقالة والخاطرة. وقد اعتمدنا في تنشيط هذه الورشات على المطالعات الحرة للتلاميذ وعلى مختلف الدروس التي تروج لقيم التسامح وقبول الاختلاف وهي قيم كونية في مجال السلوك الإنساني والعلاقات الإنسانية ومجالات المواطنة وحقوق الإنسان، ومنها أساسا درس التربية على المواطنة بعنوان: قبول الاختلاف. ودرس التربية الإسلامية بعنوان: التسامح. وقد نشطت فعاليات هذا الورش في خمس مراحل يبينها الجدول التالي:





وجدير بالإشارة أن هذا الورش قائم خارج الحصة الزمنية للتلميذ والأستاذ، بمعنى أنه يكتسي طابعا طوعيا، مما يعني أن المشاركة نفسها طوعية. وانتفاء الطابع الإلزامي عن هذا النشاط التربوي يكسبه حيوية خاصة باعتبار أن الإقبال عليه يكون من طرف التلاميذ النجباء والذين تستهويهم الأنشطة المدرسية الموازية. ومن المؤسف جدا أن لا يقع مثل هذا العمل ضمن حصص الدروس العادية التي لا تزال ترزح تحت نير التقليد والتلقين وتحت طائلة الشحن والتضخم الكمي للبرنامج الدراسي، في الوقت الذي نعتبر فيه أن التعليم ببلدنا قد دخل مرحلة البيداغوجيات الحديثة. وهذه التقليدوية نفسها تجعل العمل الاختياري للمدرس، سواء ضمن مبادرته الفردية أو ضمن الأندية المدرسية دون الاعتبار الذي يستحقه لكونه عملا زائدا، طوعيا، ومحاطا بعدة إكراهات من أخطرها ذهنيات التقليدوية التي لا تزال تسيطر على الكثير من الأطر التربوية سواء في التدريس أو في الإدارة التربوية أو في المراقبة والتفتيش. ومع ذلك، يتمكن عملنا في هذا الإطار من التوصل إلى نتائج باهرة في نشاطات ورش الكتابة كل سنة يتم الاحتفاء بها في النشر في المجلة الحائطية المدرسية، والنشر الإلكتروني والورقي.


2-1-2 ورش مجلة ابن الخطيب

ومن بين الأوراش الناجحة بمدرسة ابن الخطيب ورش المجلة المدرسية " مجلة ابن الخطيب" الذي انقسمت تشكيلته إلى مشرف عام وثلاث مجموعات هي مجموعة التلاميذ ومجموعة المؤطرين ومجموعة أعمال الكمبيوتر. وتجند لهذا العمل التربوي طاقم من الأساتذة الأكفاء وعدد من التلاميذ النجباء.

وكان محور العدد وفقا لشروط المسابقة بين المجلات التي نظمتها جمعية تنمية التعاون المدرسي ونيابة التربية والتكوين بالناظور يتعلق بالذكرى الذهبية لعودة المغفور له صاحب الجلالة الملك محمد الخامس من منفاه وما صاحب ذلك من أحداث سياسية حاسمة أدت إلى الاعتراف باستقلال المغرب.

وعقد المشرفون على المجلة عدة لقاءات لصياغة التصور العام للمجلة، ومنهجية الاشتغال داخل الورش، ونبين هنا كيف اشتغلت ورشات الكتابة في أجناس أدبية وغيرها كالقصة والشعر والمقالة والتحقيق... ضمن أعمال تحضير مواد المجلة من أجل المساهمة في ترسيخ الوعي بقيم الوطنية والمواطنة وغيرها كقيم من صميم منظومة القيم الكونية. وذلك عبر مراحل نوجزها كما يلي:

1- المرحلة الأولى: يتم فيها اقتراح المترشحين من التلاميذ للمشاركة في الورشات من المستويات: الرابع والخامس والسادس. وتمت هذه العملية على مستوى كل قسم.

2- المرحلة الثانية: تقسيم التلاميذ إلى مجموعات بحث، وإمدادهم بتوجيهات للبحث الإيجابي عبر الإنترنيت وتزويدهم ببعض المراجع

3- المرحلة الثالثة: فحص المادة التي جمعها التلاميذ وهي مادة معرفية غزيرة لكنها منقولة حرفيا، غير مبتكرة وتفتقر إلى الاجتهاد وحسن الصياغة. وفي حصص خاصة قام المدرسون بالتوسع في المواضيع مع التلاميذ شفويا، وتمت إعادة تقسيمهم إلى مجموعات

4- المرحلة الرابعة: توسعت المجموعات في مواضيعها وقامت بإعادة صياغة محاولاتها الجماعية انطلاقا من الإنجازات الفردية

5- المرحلة الخامسة: تقويم الأعمال المقدمة من طرف مجموعات التلاميذ وانتقاء أجودها للنشر.

ويبين التشجير التالي مجموعات ورش المجلة:




2-2 نادي التربية الموسيقية : الغناء الجماعي وفعاليات أخرى

توصلت الدراسات العلمية الحديثة إلى حاجة الطفل إلى الموسيقى من أجل بناء شخصيته. وتؤكد التربية الموسيقية الحديثة التي تقوم على معطيات علوم التربية وعلم الموسيقى، على ضرورة تحري الدقة في اختيار مادة التعليم الموسيقي بما يلائم طبيعة كل مرحلة عمرية من الناحية الفيزيولوجية والنفسية.


2 -2-1 أهمية التربية الموسيقية والغناء الجماعي

ويعتبر الغناء الجماعي أحد أهم الأنشطة الموسيقية والفنية التي تساهم بقوة في الصيرورة النمائية للطفل وتكوين شخصيته المتفتحة. فهي توفر أجواء البهجة الجماعية التي تخلق الانسجام والانصهار وتعلم الإحساس بالمسؤولية وسط الجماعة. وتسمح أجواؤها تلك بتمتين أواصر المحبة والتضامن والتعاون والإخاء. ويربي الغناء الجماعي الأطفال على مجموعة من القيم الكونية التي سرعان ما تجد لها امتدادات مذهلة في سلوكهم شريطة الاستمرار وبشكل منتظم في التداريب الكورالية، وهي تساعد على النمو السليم للناشئ وتهذب جهازه الانفعالي، وتربيه على فهم نفسه كوحدة لها دور في جماعة متجانسة، يسود فيها شعور الوحدة والتكامل، مما يهذب نزعاته الفردية ويعوده على ثقافة الشراكة ويقوي روح الجماعة لديه. ويطور الطفل والناشئ، بالدرجة الأولى، من خلال الغناء الجماعي ذكاءين: الذكاء اللغوي والذكاء الموسيقي. ونظرا لهذه الأهمية الكبيرة التي يكتسيها الغناء الجماعي ضمن التربية الموسيقية والتربية بشكل عام، أطلق الدكتور المايسترو سليم سحاب أستاذ الموسيقى بدار الأوبيرا المصرية بالقاهرة، في أكثر من مناسبة دعوة إلى إنشاء حركة كورالية عربية للأطفال واعتبر المدرسة مؤسسة كورالية وهي كذلك بامتياز لتوفرها على جميع شروط إنشاء الفرقة الكورالية للطفل من عنصر بشري وفضاء للتدريب وهو الفصل أنسب فضاء للكورال التربوي، وكذلك فضاء الساحة للعرض. ووجود مناسبات من شأنها أن تحفز التلاميذ على الجدية والتنافس في إتقان الأداء، منها إلقاء النشيد الوطني أول الأسبوع ومتمه، والحفلات الدورية والسنوية المدرسية وإحياء بعض المناسبات العالمية والقومية. ويمكن أن نشير هنا إلى ما حققته أوروبا في هذا المضمار منذ زمن مبكر، حيث يكفي ان نعرف مثلا أن بلجيكا عرفت ستين فرقة للغناء الجماعي سنة 1841 ارتفع عددها إلى 258 فرقة سنة 1851، ثم إلى 311 فرقة سنة 1860. وشهد القرن الماضي منذ مطلعه تأسيس حركة كورالية ضخمة تمثلت في ظهور عدة كنفدراليات للغناء الجماعي في الأراضي المنخفضة من أجل تنسيق عمل المجموعات الصوتية. منها مركز التداول العام لممارسة الموسيقى (CBAM) Centraal Beraad Algemene Muziekbeofening الذي يضم 22 هيئة لموسيقى الهواة تمثل 600.000 موسيقي هاو. في بلجيكا لوحدها 2700 مجموعة صوتية.


2-2-2 تجربة الغناء الجماعي وفعاليات التربية الموسيقية

من القيم الكونية التي يمكن للغناء الجماعي أن يسعى إلى ترسيخها في نفسية الطفل لتجد بعد وقت معين امتدادها في سلوكه قيم التسامح وقبول الآخر والاعتراف به، وذلك من خلال إبراز الذات وفرادتها الإبداعية عبر عمل متناغم، موحد وخاضع لمبدأ الانسجام مع الجماعة وفي إطارها مع باقي أفرادها.

وتنبع الصعوبة الأساس لكل مشتغل في التربية الموسيقية بالمغرب في الوسط القروي بشكل خاص، من رفض أو تحفض أو إضمار/ إظهار نظرة دونية للذهنية المحلية تجاه الموسيقى بصفة خاصة وكل ما يتعلق بالثقافة الموسيقية والفن بصفة عامة.

وتسجل تجربة معهد أنامل للتعليم الموسيقي ببلدية ابن الطيب- إقليم الناظور سابقا / الدريوش حاليا بمنطقة الريف بين 2004 و2007 مجموعة من الملاحظات الهامة. وهي أول تجربة من نوعها في الإقليم والمنطقة التي لا تتوفر لحد الآن على معهد موسيقي سواء رسمي أو خاص. وأُجمل هذه الملاحظات فيما يلي:


أ‌- التعطش الشديد للأطفال في مثل هذه المناطق للأنشطة الفنية وللتربية الموسيقية بشكل خاص.

ب‌- في مقابل ذلك، وجدنا أن كل الأطفال المسجلين والذين كانوا يستفيدون من التعليم الموسيقي بمعهد أنامل هم من أصول مدينية وينتمون إلى أسر متعلمة وافدة على بلدية ابن الطيب وليسوا من أبناء القبيلة. وهذا راجع إلى التمثلات الاعتقادية السائدة حول الموسيقى. من جهة، والتصور الثقافي لمكانة الموسيقي في المجتمع التقليدي المحافظ من جهة ثانية.

ت‌- وجود صعوبات مادية ناجمة عن عدم الإقبال على المعهد. وتأثر العديد من الأطفال المنخرطين وذويهم بتلك التمثلات السلبية، مما اضطرنا إلى إقفاله لتراكم العجز المالي وعدم القدرة على تسديد مستحقات كراء مقر المعهد.


يمكن أن نلاحظ أيضا أن المؤسسات التعليمية في الابتدائي والإعدادي والثانوي لا تهتم بالتربية الموسيقية وأنشطتها بالوسطين القروي والحضري على حد سواء، فلا توجد لحد الآن في نيابة الدريوش ولا في نيابة الناظور سوى مؤسسة واحدة تدرس فيها هذه المادة وتظهر من خلال أنشطتها المتميزة وهي مدرسة ابن الخطيب الابتدائية. ويكفي أن نشير إلى أن مهرجان المجموعات الصوتية الذي تنظمه وزارة التربية الوطنية هذه السنة للمرة الثالثة، لم تعرف دوراته لحد الآن مشاركة أية مؤسسة إعدادية أو ثانوية من الناظور أو الدريوش حتى على المستوى الجهوي. بينما يشارك أستاذ من مدرسة ابن الخطيب الابتدائية في هذا المهرجان بصفته عضوا في لجنة تحكيمه في الدورات الجهوية بأكاديمية الجهة الشرقية بوجدة. كما يمكن أن نلاحظ أن أساتذة التربية الموسيقية بنيابتي الناظور والدريوش تسند لهم مهام أخرى، غير تدريس التربية الموسيقية التي تمثل تخصصهم. وهذا راجع إلى عوامل سوسيو ثقافية يمكن تلخيصها في النظرة الدونية للموسيقى وذهنية تحريمها.

هنا تطرح ضرورة تغيير هذه الذهنيات لملاءمة روح العصر الذي نعيش فيه، وذلك بفسح المجال للتعرف على الثقافات الموسيقية. والتجارب الفردية والجماعية في مناطق أخرى وبلدان أخرى تيسيرا للاحتكاك الثقافي. وفي هذا الصدد قامت مجلة نغم المتخصصة في التربية الموسيقية وعلم الموسيقى بعدد من المبادرات محليا للنهوض بالتربية الموسيقية من خلال التنظيم والمشاركة في إقامة ملتقيات ومهرجانات وأمسيات للموسيقى التربوية قدمت فيها تجارب رائدة للعزف والغناء من مناطق أخرى. وساهمت في تشجيع إرهاصات الموسيقى التربوية المحلية في أنشطة ناحجة على الصعيدين المحلي والوطني. من بين هذه الفعاليات ملتقى الموسيقى التربوية الأول الذي نظمته مجلة نغم ، بشراكة مع المجلس البلدي لابن الطيب ومندوبية الثقافة بالناظور يومي الأحد والاثنين 20 /21 يونيو 2010 بدار الشباب ابن الطيب تحت شعار:" الموسيقى تهذب النفس وترقي الذائقة". وإحياء مجلة نغم سنويا ومنذ 2008 لليوم العالمي للموسيقى، وعدة مشاركات في المهرجان الدولي لموسيقى الطفل والأغنية التربوية بالرباط.


وقد تأسس نادي التربية الموسيقية بمدرسة ابن الخطيب سنة 2004. وضم تلاميذ من مختلف المستويات، تحت إشراف أستاذ متخصص من هيئة التدريس بهذه المدرسة. واشتغل النادي على مواد القراءة الإيقاعية والقراءة اللحنية والتنغيم وصولا إلى تهجي ثم قراءة وتنغيم مدونات موسيقية مكتوبة للأطفال أو تناسب مستواهم الموسيقي والعمري، ثم حفظ عدد من الأناشيد وأغاني الطفل. وشكلت المواد الغنائية للنادي، بالإضافة إلى فقرات للعزف على الآلات الموسيقية تم إعدادها بمعهد أنامل. مواد فنية غنية لحفل اختتام السنة الدراسية منذ سنة 2004. وفي مرحلة تالية 2008-2011 استطاع النادي تطوير المجموعة الصوتية وأدائها وتكوين مجموعة للناي المنقاري بالإضافة إلى حصص للألعاب الإيقاعية.


3- خاتمة

تظهر ثقافة وآداب الطفل في الأنشطة المدرسية من خلال أوراش الكتابة والغناء الجماعي، سواء من في أعمال الأندية التربوية أو في فعاليات الفصل الدراسي، في وسط مدرسي فاعل ومبدع. لا يعمد إلى إغراق الأطفال في روتين الدروس اليومية المضغوطة، وإنما يخفف من وطأتها، ييسرها ويحببها لهم. ويجعل من المدرسة فضاء بهيجا، وهذا يتطلب من بين ما يتطلبه حفز الأطر التربوية المبدعة، وتغيير العقلية الإدارية الكابحة للخلق، وتكريس مبدأ التخفيف المنصوص عليه في الميثاق الوطني للتربية والتكوين، بإدماج المواد الفنية وإعطائها ما تستحقه من أهمية وتوفير الشروط البيداغوجية والمادية لتدريسها على أحسن وجه، والانتقال من مفهوم الأنشطة الموازية الذي يجعل الإبداع زائدا وتكميليا إلى مفهوم الأنشطة المدمَجة للمواد الفنية ضمن تصور بيداغوجي حديث ومواكب للتطورات التي يشهدها حقل التربية والتكوين. مما سيجعل المدرسة بمثابة تربة خصبة لنمو سليم وصحي لشخصية الطفل، ينهل منها المعارف والمكتسبات الثرة، ويطور فيها كفاياته وقدراته الخلاقة، كما يتشبع فيه بالقيم الكونية ذات البعد الإنساني النبيل مما سيؤهله لاحتلال موقع فاعل في المستقبل ويمكنه من شق طرق غد زاهر .

عبد القهار الحجاري 

------------------------

* قدمت هذه الورقة البحثية ضمن أشغال الندوة الدولية "آداب وثقافات الطفل الإفريقي في مطلع الألفية الثالثة"، الدار البيضاء/ الرباط، 19-20 ماي 2011، ثم نشرت بمجلة الفنون الكويتية 

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال