الأغنية المغربية في العصر الرقمي
التنميط وتحول البناء الموسيقي(*)
عبد القهار الحجاري
باحث في علم الموسيقى
حمل مفهوم الأغنية العصرية المغربية منذ نشأتها في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي عمقا حداثيا تأسس على الخصوصية الثقافية النغمية والإيقاعية وانبنى على نبل الكلمة سواء في النصوص التي كتبت بالعامية أو في القصائد التراثية أو تلك الجديدة الحاملة لسمات الحداثة الشعرية، كما ارتكز على جمالية الصوت وشعرية التعبير والتطريب مع تجديد وتطوير الأوركسترا والاجتهاد في التوزيع الموسيقي.
إلا أن تطور الوسائط في غمرة الثورة التكنولوجية وانتقال العالم إلى العولمة عصف بالثقافات الوطنية ومن ضمنها الموسيقى فمستها تحولات عميقة، وأصبحت الأغنية المغربية في العصر الرقمي تطرح سؤال التثاقف والتنميط، فهل ما تعيشه الأغنية المغربية اليوم من تحول هو نتيجة تفاعل إيجابي وبناء أم هو محض تأثر بمعطيات الثورة الرقمية؟ كما تطرح سؤال التحول على مستوى أذواق الجماهير، ما هو هذا التحول وكيف نقيمه؟ وما هي تداعيات هذه التحولات على البناء الموسيقي للأغنية المغربية اليوم؟
1-موسيقى العصر الرقمي : تثاقف أم تنميط؟
الثورة الرقمية تحول جذري في التقنية وطور موغل في الثورة التكنولوجية، أحدثت انقلابات كبرى في كافة أنحاء المعمورة حتى صار العالم يوصف بـ " القرية الصغيرة "، إذ دخل مرحلة جديدة سميت بالعولمة قوامها إلغاء الحدود الجغرافية والثقافية وفتح الأبواب لتدفق غير محدود للمعلومة عبر البث الفضائي وبمختلف الوسائط الرقمية خاصة الشبكة العالمية التي أضحت تسيطر على التواصل والنشر وإنتاج المعلومة وتسويقها، وهيمنة الشركات العملاقة على مختلف قطاعات الشبكة، من خلال مواقع النشر والصورة المتحركة (مواقع الفيديو) والخدمات والتجارة العالمية ومحركات البحث والبريد الالكتروني ومنصات التواصل الاجتماعي وغيرها، وأصبح تدفق الموسيقى عبر التخوم سيولا عارمة لا راد لقضائها، وهو ما يجعلنا نتساءل عن حقيقة "التثاقف" في جسم وطني يفتقر إلى المناعة الثقافية باعتبارها أهلية ثقافية قادرة على التفاعل الإيجابي والبناء مع كل ما يفد على الوطن من أنماط موسيقية لا حصر لها، بما يحفظ الخصوصية والهوية ويعززها في الإنتاج الموسيقي والفني والثقافي بشكل عام، ويخدم أهداف التقدم والبناء الحداثي؛ لكن هذه المناعة الثقافية لا تتأتى إلا ضمن سيرورة تربوية طويلة، عبر قطاعات التربية والثقافة والإعلام أساسا. وفي غياب الدور الفاعل لهذه الروافع الثلاث تعجز الهوية الموسيقية عن الصمود في وجه أعاصير التنميط التي تهب بلا هوادة من الثقافات الأقوى.
لقد تشكلت عندنا أنماط جديدة في الغناء في وطأة وهن وضعف مناعتنا الثقافية وفي مواجهة التنميط العولمي، تتسم في غالبيتها بالضحالة الشعرية والفلسفية والنغمية والإيقاعية غير قابلة سوى لاستهلاك آني وسريع، فيما فُصِل التراث الموسيقي ويُفْصل عن ذاكرة الأجيال الجديدة، ويحاصَر ضمن محميات محدودة لا تسمح باستدماجه في الإبداع الفني، ويُقدَّم برؤية تسييحية خانقة لروحه المتجددة، خاصة مع تعالي أصوات المحافَظة المتزمتة الفاقدة لأي رؤية مستقبلية تنويرية، وأعني هنا مناهضة قطاع واسع من الموسيقيين والمثقفين اليوم لتوظيف التراث الموسيقي الأندلسي في إبداع روائع غنائية مغربية من شأنها العودة إلى بناء الأغنية المغربية على الخصوصية وهي السبيل الأول نحو العالمية.
2-الموسيقى المغربية وإعادة صياغة الذوق العام
خلال العصر الذهبي للأغنية المغربية منذ أواخر الخمسينيات إلى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي تشكل ذوق عام اتسم بالكثير من الرقي، كانت الدولة راعية للفن الموسيقي الرفيع، ولعبت الوسائط التقليدية دورا هاما في بلورة هذه الذائقة من أسطوانات وأشرطة كاسيت وإذاعة علاوة على السنيما والتلفزيون في وقت لاحق، فضلا عن السهرات والحفلات الحية الراقية. كانت الوظيفة الأساس لهذه الوسائط تربية الأذن الموسيقية للجمهور، إذ كانت الموسيقى تسمع أساسا، وتشكل هذا الذوق العام على قاعدة نغمية وإيقاعية غاية في الثراء، تمثلت في تشرب المقامات العربية والطبوع المغربية الأندلسية التي أصبح الكثير منها اليوم مهددا بالاندثار، وبذلك تدربت الأذن على التمييز بين الأجواء النفسية والتعبيرية للبناء اللحني للأغنية المغربية العصرية اعتمادا على تفجير أسرار الأبعاد وأنصافها وأرباعها، وعلى الانتقالات المقامية الحاملة لعناصر الدهشة والتطريب والتعبير، وتربي لدى الجمهور حس موسيقي عال مكنه من تذوق الطوابع الصوتية للآلات الموسيقية وخصائص الأصوات البشرية، وتقديم انطباعاته عنها وإن بصيغ غير علمية وغير دقيقة، إلا أنها تنم عن حس جمالي، علاوة على ولع الناس بالانصات وحفظ الأغاني القصيرة والطويلة على حد سواء.
ومع الثورة الرقمية تحول الغناء إلى التركيز على الصورة والإدراك البصري كبديل عن الصوت والإدراك السمعي، فاستأثرت الصورة المتحركة من خلال الفيديو كليب في الفضائيات، خاصة وقد تدهورت جودة التسجيلات مع الأقراص المضغوطة وصيغ mp3 وصيغ أخرى بالشبكة العالمية مقارنة مع الجودة العالية للأسطوانات وأشرطة الكاسيت، فتدهورت الذائقة السمعية وبدأت إعادة صياغة الذوق الموسيقي المغربي العام وفقا للتحولات الجارية في العصر الرقمي لصالح الصورة، ومع انتشار الشبكة العالمية وسيطرتها على التواصل واستحواذها على سوق الموسيقى والغناء وعلى قطاع واسع من صناعتها، وحرص شركات الإنتاج والتسويق على الربح السريع والاستهلاك تراجع ذوق الجمهور المغربي إلى درجة الاستلاب، وهو توصيف يعيننا في فهم طبيعة وخطورة هذا التشكيل الجديد ليس للذوق فحسب بل لكينونة الفرد التي صارت افتراضية أكثر فأكثر بعيدة، عن الخصوصية والهوية، استلاب يلغي وجود الإنسان ككائن ثقافي فاعل يتمتع بملكة الحكم وكفاية الاختيار الكفيلتين بتأهيله لصياغة ملامح نهضة ثقافية وبناء الحداثة انطلاقا من التربة المغربية.
ولا ننسى هنا مسؤولية الدولة في غمرة صعود الليبرالية الجديدة الموسومة بالمتوحشة في الأدبيات السياسية، وتخليها عن رعاية الأغنية المغربية العصرية لصالح الأنماط الموسيقية الوافدة خاصة من خلال المهرجانات العملاقة (مهرجان موازين أساسا) وبميزانيات خيالية، فيما يعاني قطاع الموسيقى وقطاع الثقافة عموما من أوضاع مزرية ماديا ومعنويا ليس أقلها ما يكابده مدرسو الموسيقى بالمعاهد الموسيقية على المستوى الوطني، كما تخلت الدولة منذ صعود الأصولية عن مشروعها بإدماج التربية الموسيقية في المجتمع من خلال المنظومة التربوية، فأفسحت المجال بذلك واسعا لتكريس ذهنيات تحريم وتبخيس الموسيقى الرفيعة، ومقابل ذلك لا تتورع عن نشر الأسفاف والابتذال وإشراع الأبواب لشتى صنوف الموسيقى الهابطة.
3-الأغنية المغربية وتحولات البناء الموسيقي
في غمرة العولمة خضعت الأغنية المغربية لمنطق التحولات الرقمية، وضمنه منطق الربح والاستهلاك، فمست بناءها الموسيقي كمثيلتها المشرقية زوابع تغيير هوجاء ضربت في العمق العناصر الكبرى للهوية الموسيقية من كلمة وقالب موسيقي وبنية مقامية وإيقاعية، فقد صارت الأغنية المغربية قصيرة لا تتعدى دقائق تطبعها الضحالة الفنية مع تغليفها بالتوزيع الموسيقي أحيانا لإخفاء ضعف التأليف وركاكة الجملة الموسيقية ورتابتها مع إغفال توظيف قوالب الموسيقى العربية التي كانت بمثابة عناصر قوة في العمل الغنائي في العصر الذهبي للأغنية المغربية، ومن أهمها الارتجال الموسيقي في المقدمة الموسيقية وفي المقاطع الفاصلة والموال والارتجال الغنائي بشكل عام في الأداء الغنائي.
علاوة على تدني الكلمة في الأغنية المغربية إذ فقدت رونقها وبريقها وشعريتها وعمقها في معظم ما يقدم من أعمال غنائية، بل صارت هابطة في أحيان كثيرة، وأخطر ما مس الأغنية المغربية ونظيرتها العربية شطب السيكاه (نصف بيمول أي ربع النوتة)، وهي أبرز ما يميز البنية المقامية في الموسيقى المغربية والمشرقية وأكبر علامة تمثل خصوصيتنا النغمية، واختزلت الألحان في مقامات معدودة خالية من ربع النوتة وقريبة أو مماثلة للنسق المقامي الغربي المقتصر على مقامين: الكبير (العجم) والصغير (النهاوند)، في حين تزخر موسيقانا بعدد هائل من المقامات العربية والطبوع المغربية الأندلسية، ويعتبر هذا التعدد مصدر ثراء نغمي وخصوصية في الموسيقى المغربية والمشرقية، وأصبحت الأغنية المغربية اليوم تختزل البنية المقامية أساسا في العجم والنهاوند والكرد والحجاز، وتهمل أبرز المقامات التي بني عليها معمار الأغنية العصرية على عهد الرواد والمؤسسين والملحنين في القرن الماضي، ومن أهمها الراست والبيات والسيكاه والصبا وفروعها الكثيرة وكل المقامات الحاملة لنصف بيمول.
ولم يقتصر الأمر على هذا الحد، بل تعداه إلى اختزال المقام - في أحيان كثيرة - في درجات قليلة من السلم المكون من ثمان درجات بما فيها القرار والجواب، وهذا الاختزال يفرغها من شعريتها النغمية لعدم استفادة اللحن من أسرار الدرجات المهملة، كما تهمل الأغنية المغربية اليوم في غالب الأحيان الانتقال المقامي الذي يفقد تدريجيا رونقه ودهشته بسبب ذلك الاختزال، بل يغيب كلية في الكثير من الأغاني؛ فمن أسرار روعة الأعمال الغنائية الخالدة تعدد المقامات داخل اللحن الواحد على قاعدة مقام رئيس يتم الانتقال منه إلى آخر ثانوي فتنبجس مختلف الشحنات التعبيرية، ما يخلق جمالية الدهشة في التلقي بالانتقال من أجواء نفسية انفعالية وجدانية إلى أخرى ما يضفي على العمل طابعا تعبيريا طربيا مائزا.
إن إلغاء مقامات السيكاه في التلحين واختزال البنية النغمية في درجات محدودة كما ونوعا بقدر ما يعدم الإمكانات النغمية الهائلة الثاوية في البناء المقامي يفرغ الأصوات المميزة في الأداء من قدراتها وكفاياتها العالية، حتى غدت جل الأصوات متشابهة متماهية.
وأصبحت للإيقاع سلطة مستبدة مسيطرة على العمل الموسيقي، حيث يطغي غالبا على الفرقة ويجعل أداء الجمل الموسيقية ثانويا تابعا حتى مع التوزيع الموسيقي الجيد، لأن الإيقاع لم يعد نابعا من صلب الدلالة ولا من تعبيرية البناء اللحني، ولم يعد الإيقاع نبض الحياة في القطعة الغنائية يثوي في الأداء ويبرز من خلال التعبير والتطريب والطابع الصوتي وأسلوب تفسير المدونة الذي يختلف من مؤد إلى آخر، بل صار معطى جاهزا مفروضا من خارج الموسيقى. وتزخر الموسيقى المغربية بصنوف شتى من الإيقاع البسيط والمركب، وتحت طائلة التنميط أهملت اليوم الإيقاعات الثقيلة المركبة، إذ جنحت الأغنية إلى السرعة، وبقي الإيقاع المغربي المركب (ستة ثمانية) وحده صامدا لجاذبيته المائزة في المشرق وصداه الطيب في الموسيقى العربية في موازاة مع بداية حضور العامية المغربية في السنوات الأخيرة في تأليف العديد من الأغاني العربية، وإن بقيت هذه الأخيرة حبيسة النمط الاستهلاكي.
4- خلاصات تركيبية :
تساهم الموسيقى الرفيعة بقوة في تشكيل وجدان الأمة عبر تربية الذائقة والحس الجمالي، ولعبت الأغنية المغربية في القرن العشرين دورا فعالا في بناء شخصية الإنسان المغربي البعيدة عن الانحراف والظلامية والتطرف، وتزخر الموسيقي المغربية بتنوع هائل، وتتمتع بثراء نغمي وإيقاعي قل نظيره، لا تستفيد منه الأعمال الجديدة ولا توليه الاهتمام اللازم، ولتأهيل الأغنية المغربية كي تقاوم التنميط والنزعة الاستهلاكية وتنخرط في التثاقف الموسيقي من موقع قوة في هذا العصر الرقمي الكاسح، وتساهم في ترقية الذوق العام نقترح:
- إعداد استراتيجية وطنية للنهوض بقطاع الموسيقى ضمن تصور عام يولي الاهتمام اللازم للفنون والثقافة.
- نبذ ذهنيات تحريم وتبخيس الموسيقى والغناء من خلال برامج ومناهج التربية والتكوين وعبر الإعلام وقنوات الدولة والمجتمع.
- إعادة الاعتبار للتربية الموسيقية واستئناف عملية إدماجها في المجتمع عبر المنظومة التربوية.
- الاهتمام بالموسيقى المغربية بكل أنماطها وألوانها المحلية وإدراجها ضمن الدرس الجامعي، وإنشاء مسالك للتربية الموسيقية بالكليات تساهم في ترقية الذوق ونقل التراث الموسيقي المغربي مخزون الأغنية المغربية العصرية الرائدة إلى الأجيال الجديدة.
- تنسيق جهود الموسيقيين والباحثين لتطوير الأغنية المغربية في خط حداثي يرتكز إلى الخصوصية كي يتجه بها نحو العالمية.
(*) منشور بمجلة الموسيقى الصادرة عن المجمع العربي الموسيقى التابع لجامعة الدول العربية