العالم ليس سيّارا حولنا
نحن من ؟
الذات الفردية، والجماعة العصبوية، والكيان القومجي الهلامي، تعبيرات تختصر هذا النحن القابع في الظلمات، يراوح مكانه منذ قرون، يستديم فواته بانتظارية قاتلة، ولا يفتأ ينشر أننا محور العالم، ويُشيع أن العالم سيار حولنا.
هل تتمتع الذات الفردية بمقومات الفاعل المبدع المارد الخلاق البناء المبادر المستنفِر لكل طاقاته، من أجل الالتفات إلى البيئة الطبيعية والاجتماعية وحمايتها من صلفه، والانخراط في الفعل التنويري من أجل النهوض وتجاوز الفوات؟
أنى لها ذلك وهي حبيسة قوالب تفكير ورؤى معدة سلفا، مكبلة العقل، ضحلة الذائقة، مخنوقة العقيرة، لا تقوى على الصراخ، غير قادرة على الرفض، بل يعوزها أبسط تعبير في أحيان كثيرة ؟!
هذه الذات الفردية هي نفسها التي تهُبُّ بنعرة وحمية، لكن بعمى عقلي لا حدود له وهي تعتقد أنها تنافح الهوية والعقيدة، وترد الاعتبار لذاتها الجمعية، فتفصح عن "فاعل" مُتّبِع ومارد متجبر هدام، مبادر إلى العنف والتدمير، مُستنفِر لكل طاقاته العدوانية وهو يعتقد أنه يهُبُّ ليدافع عن الحق ويصون الفضيلة، بيد أنه يحمل بين ما يصرح به وما يمارسه تناقضات غريبة لا حصر لها.
ينظر الفرد عندنا إلى ذاته نظرة دونية، لأنه فاقد للحرية وللكرامة والاستقلالية، يمجد الآخر ويتمنى الهروب إليه، أو يسعى ليُحرق الحدود بحرا وبرا نحوه، كي ينعم بشيء من إنسانيته في أحضان البلاد التي تحضن هذا الآخر، وحين ينظر إلى إخفاقاته يغرق في الشعور بالغبن وبأن العالم متآمر ضده وضد شخصيته وهويته.
تركيبة الفرد في المجتمع المستلَب تركيبة معقدة حابلة بالتناقضات، إنه يريد ولا يريد، له رأسان واحد به رأي والثاني رأي نقيض، يحب جاذبية الحداثة لكنه يريد ويكرس التقليد، فهو شديد التعصب، لا يحب الاختلاف، ينخرط في الحرب بمجرد ظهور ملامح التغاير، يحب أن يكون تقدميا لكنه شرس الدفاع عن أشياء كثيرة رجعية، إنه الفصام الذي جُبِلنا به في المجتمع الواقع في الفوات الرازح تحت الاستلاب.
الجماعة العصبوية مجموعة من الناس أشبه ما تكون بقطيع سائر تحت إمرة كرّاز (كبير التيوس)، تحكُم أفرادَها علاقة الشيخ بالمريد؛ العائلة والقبيلة والحزب والنقابة والجمعية والجماعة الدينية أو ذات لبوس ديني، وغالبا تكون ذات أهداف سياسية... كلها جماعات عصبوية، متراصة على قاعدة مسلمات متكلسة وأفكار محنطة غير قابلة لإعادة التدوير، لا تؤمن بالفرد المبدع، وتحاربه، فهو عدوها وهي عدوة النجاح، تُعِد كل شيء سلفا في مطبخها، ترفع أقوى شعارات الحداثة والتقدم والديمقراطية وهي ألصق بكل ما يخالف الشعار من احتكار للرأي وتقديس للزعامات، ونبذ للنقد ونفي للعقل وتحجيم للاختلاف وممارسة الإقصاء الممنهج، وتجريم التفكير والمبادرة .. وهذا كله يذيب الفرد في عصبة متماهية قاتلة تصبح قوة رادعة لكل محاولات النهوض والإبداع، والأدهى أنها تنخرط في منظومة الفساد عبر علاقات متنفذة تحقيقا لمصالح آنية ضيقة.
كلما شعرت الذات الفردية أو الجماعية بتهديد في وجودها أو توهمت ذلك التهديد، باعتبارها كيانا يعيد إنتاج التأخر، كلما رفعت فزاعاتها العديدة، ليس في وجه الاستبداد والظلم وجبروت السلطة السياسية، فهذا جدار عال، بل في وجه الذات المقهورة (الحيط القصير) أو القوى البعيدة التي لا يطالها عقابها.
أما الكيان القومجي الهلامي فتَمثُّله يرتبط بذلك الانتماء المثالي خالص النقاء والصفاء، لأمة لا توجد إلا في الخيالات الواقفة على أطلال الماضي التليد، واعتناقه والاعتقاد بحتمية تحققه في يوم من الأيام، يجعل برنامج النهضة الوطنية الديمقراطية مؤجلا، وإرساء مقومات المواطنة مستبعدا، ومفهوم الأمة/الوطن الحضن الحقيقي الذي نبت في أحضانه مغيّبا، ومثلما يقف الفرد مسلوب الإرادة متمترسا خلف السلبية والعداء الظاهر والمبطن لكل شيء ولأي شيء مصدره الوطن، تقف الجماعة العصبوية وكيانها القومجي الموهوم في وجه المواطنة، فتضرب كل قيمها حين تستبدلها ب"قيم" الولاء والانتساب المناطقي والقبلي والعشائري والحلقي الضيق...
"إن العالم سيّار حولنا" !
هكذا ذهنية مستلبة من الماضي، تكرس الشعور بأننا مركز الكون وضحيته، كل شيء موجود من حولنا يريد بنا شرا، وأننا مستهدفون، وهو استلاب لا يقل خطورة عن الارتماء في أحضان الغرب والاستعمار الجديد، وجوهر الاستلاب طلب إرادة المستلَب هدفا، وحين تُنزَع الإرادةُ من الإنسان يصير عاجزا عن الفعل والبناء، وبعيدا عن المواطنة التي تقتضي المسؤولية في إنجاز التغيير نحو غد أفضل للبيئة والإنسان.
#عبد_القهار_الحجاري