في ثقافة أتاي
كانت والدتي دائما تقول لي إنني أشبه أبي في كل شي، والحال أنني لا أشبهه في أشياء كثيرة، وإن كنت استمرارا له في الروح والجوهر، ومن الأشياء التي لم أستطع أخذها منه صنعة الشاي، أتاي.
كانت لوالدي صلة حميمية بالبراد (إبريق الشاي المغربي)، وكان شديد الحرص على طقوسه التي يقوم بها بنفسه وبدقة، كان يجلس إلى الطاولة وطقم إعداد الشاي كاملا عنده كله من نحاس أبيض؛ باستثناء الكؤوس فهي زجاجية، أمامه صينية بها براد فاسي صلب أنيق تتحلق حوله الكؤوس، ربيعيات ذات مغالق في شكل قباب، واحدة للسكر وثانية لحبوب الشاي، وأخرى للنعناع، كؤوس الشاي بعد أن توضع أمامه مغسولة نظيفة، ينشفها بعناية فائقة بمنديل خاص أبيض، وأخذت أردد فيما بعد " كيسان حياتي يا عين ما منها تاني كيسان ! " معارضا أغنية حسن الأسمر (كتاب حياتي يا عين)، الكيسان (جمع كاس بدارجتنا المغربية)، أما "كاس البلار" الذي تغنى به الفنان المغربي الكبير فتح الله المغاري على سبيل الاستعارة في أغنيته الشهيرة، فلم يكن متاحا للفقراء أمثال أسرتنا وكنا نحب "كاس حياتي" وكم كانت جميلة تلك الحياة ببساطتها، رغم كل شيء .. وكان على كانون السبيرتو (وبور الغاز) - وفيما بعد قارورة الغاز الصغيرة - أمام والدي غلاي الألمنيوم، وعند صعود بخار غليان الماء يصب القليل في البراد، ويأخذ في تحريكه ثم يفرغه في أحد الكؤوس، ونسمي ذلك تشليل البراد، ثم يصب من ربيعية الشاي في كفه اليسرى حبوب الشاي التي كان أبي يفضلها حبوبا لا شعيرات، كان يقدر بهذه الطريقة الكمية المناسبة لحجم البراد، وكانت أمي تلاحظ مرات أنه يبالغ في الكمية وهاجس اقتصاد مادة الشاي وحسن تدبير المتوفر منها لمدة أطول هو هاجسها المسيطر، وإذا زاد القليل على الكمية التي في كفه شهقت وصاحت به بالأمازيغية :
أحلو ها كفاش !
أي يكفيك هذا ! وكان أبي لا يبالي ويكتفي بالنظر إليها فتضحك ثم يبتسم هو ويواصل طقوسه ونحن نترقب كأس الشاي العجيب، يصب القليل من الماء الذي لايزال يغلي على نار هادئة في البراد الذي يكون قد وضع فيه كمية حبوب الشاي ليحركه ويصب التشليلة أي الماء بعد أخذه لونا قاتما من الشاي، ويراد من هذه العملية غسل حبوب الشاي من الشوائب، ثم يعيد التشليل للمرة الثانية، لكنه لا يُهملها، بل يعيدها إلى البراد بعد تشليلة ثالثة، وهو يقول "إن الحكمة في التشليلة الثانية !"، وعندها يملأ البراد بالماء المغلى تاركا بعض الفراغ فيه لوضع ورقات النعناع التي تم غسلها وتنشيفها من قطرات الماء، وبعد غلي براد الشاي على النار يضع فيه النعناع، وهو يصب كأسا يرفع البراد إلى أعلى تاركا مسافة بينه وبين الكأس ليختبر إفراز الشاي لرغوته التي لا تضاهيها غير رغوة الجعة، ويعيد الشاي من الكأس إلى البراد، ثم يصب ويعيد ويضيف السكر ويصب ويعيد ... ثم يضع منديل الكيسان على البراد ويشرع في الحديث، ونحن متطلعون إلى البراد، مرة ضحكت إذ نفذ صبري وسألت أبي :
- متى ستصب لي كأسا يا أبي !
فهز رأسه وقال بهدوء :
- اصبر قليلا يا ولدي !
آه كم صبرت كي أنال تلك الكأس ذات الرغوة والمذاق الحلو المفعم بقليل من المرارة الساحرة !
عندما كبرت واشتغلت بجبال الريف وجدت نفسي ملزما بتحضير الشاي، وطوال حياتي حضرته كيفما اتفق، ولا أذكر إلا مرات نادرة أنني صنعت فيها شايا بطعم شاي أبي، طعم لا يماثله غير مذاق شاي أهل الصحراء الذي يتفننون في طقوسه، شربته أول مرة في فاس في جمع لطلبة من الجنوب، كنا ندرس بكلية ظهر المهراز، وفي إحدى الأماسي جلسنا في بيت أصحابي أهل الكرم التواضع والتلقائية من أسا الزاگ وطالت جلسة إعداد الشاي لكن النتيجة كانت مذهلة، يقولون "تعالوا انْتَيْيِوْ" أي نُعِدّّ شايا، وإعداد الشاي لا يوكل لأي كان، إنما يكلف به صاحب الإتقان، وهو نفس الأمر يلاحظه الجميع في المناسبات، حيث يكلف بصينية الشاي رجل ذائع الصيت في العائلة بصنعة الشاي المغربي، ولا زلت إلى اليوم أعتبر نفسي فاشلا في إعداد الشاي، وقد حاولت الالتزام بالطقوس مؤخرا، من دون جدوى.
سألت في إحدى المقاهي التي يعجبني شايهم ما سر هذا المذاق ؟ فلم أظفر بجواب واضح، حبوب الشاي من صنف عادي ومع ذلك لا يخطئ أحد عندهم الطعم الجيد والرغوة الكثيفة ولون السائل الذي ليس داكنا بالضرورة، وإذا كنتَ ذواقا للشاي فلا يمكنك أن تقبل في أي مقهى بالمغرب برادا أُعِدَّ بسرعة وبغير حُب، فتعيده إلى النادل وتُحترم رغبتُك، تثيرك رائحة الشاي الناظوري يقدم في كأس طويلة بدل البراد ويسمى الناظوري أو الشمالي في مدن الناظور والحسيمة وتازة وتطوان وطنجة، وهم يعدونه في المقاهي الشعبية بصنف عادي من حبوب الشاي مع النعناع والشهيبة وهي نبتة ذات مذاق مر لكن ذات طعم فريد في الشاي، وفي الوسط والغرب والجنوب والشرق، في كل قرية ومدينة ببلادنا احتفاء خاص بالشاي، تجرى طقوسه وسط جمع الحاضرين في وليمة قبل الأكل وبعده، ويحرص معده على أخذ الوقت الكافي لإعداده، وبعد حمام ساخن نفضل في وجدة براد شاي بالنعناع والفطير المقلي المسمى بالاسفنج، والشاي في رمضان طقس واسع الانتشار في البيوت والمقاهي بعد الإفطار، وقيل إنه يهضم ويحافظ على نسبة السوائل في الجسم، لكنني لم أتعلم لحد الآن صنع شاي مكشكش مر من دون أن يصير لونه داكنا، وقد قررت التجربة تلو التجربة والبحث تلو البحث حتى يصير شايي مضرب الأمثال، لكن إيقاع العصر المتسارع يفرض علينا إعدادا سريعا لكأس شاي يفقد طعمه فنحرم من الاستمتاع بنشوته، فهل ستأخذ الأجيال الناشئة هذه الثقافة؛ ثقافة أتاي وتحافظ عليها ؟
أخشى أن تأخذنا سرعة الزمان ولهاث العصر إلى حيث لا ندري، تاركين خلفنا أشياء جميلة تنسل منا تدريجيا وعادات وطقوس تصنع متعة الحياة وروعتها.
#عبد_القهار_الحجاري