رسالة إلى مفتش بوليسي

 رسالة إلى مفتش بوليسي

قصة قصيرة 



كان يقرأ الرسالة وهو راجف مرعوب ...

 قلت لصاحبي :

- لا تخْشَ الشاعر، فقد ولّى زمن الهجاء ! إنما عليك بالحذر من القصّاص !

لم يستطع أن ينظر إلي ولا أن يحرك حرفٌ فاه، كان يقرأ واجما، يسحب نفسا عميقا تلو نفس من سيجارته أولمبيك الحمراء، في يوم ما ستحال على التقاعد، فتدرك أنك كنت في غاية الصلافة، فجا أجوفَ فظا غليظا وسينفض الناس من حولك، ضحكت امرأة طاعنة في السن وهي تسند بعكازها جسدها الواهن قرب باب المقهى، صاحت ساخرة : 

- يوم لك ويوم عليك !

 قهقهتْ عاليا ثم انصرفت.

 لن يشفع لك طولك الفارع، ولا ابتسامتك الصفراء .. ستفقد تلك الصفة التي لازلمتك طوال حياتك المهنية، بعد أن كنت مدرسا فاشلا هناك في تلك المنطقة النائية جنوب وجدة، توقف طويلا عند هذه الجملة، ولم تبرح عيناه الورقة، غاب كثيرا حتى صار نصف سيجارته رمادا ...

 ستشعر أنك لم تعد تملك تلك السلطة التي تختزلها العبارة المقيتة "مفتش"، كنت تُسْبِغُ على نفسك صفاتها البوليسية وزملاؤك يستحيون أن يكونوا عملاء لمحاكم التفتيش، ويتوسمون في أنفسهم الانتماء إلى حقل التربية، بينما كنت أنت تحب أن ترى في نفسك دائما شرطيا في غاية الصلافة.

 ارتمى فوق السرير، وعبثا حاول النوم ... 

 كنتَ هناك مدرسا غشاشا، تغطي فشلك الذريع بتوزيع النقط على التلاميذ كيفما اتُّفِق، وبالتمييز الفاضح، ستذكر أنك كنت مثالا للمتقاعس عن أداء رسالته، كنت خائنا للأمانة، متنكرا لشعارك - فلذات الأكباد - الذي ترفعه حاليا بلا استحياء، ستنكس هاماتها الأزهار في وجهك وأنت تجوب الشارع جيئة وذهابا طوال سياج الحديقة، ستجلس وحدك في المقهى .. كثيرون من حوله سيبرحون جلساتهم كي لا يتقاسمون معه الهواء الذي لوثه بحضوره المقيت.

كل كلمة كل عبارة وكل جملة في الرسالة المشؤومة تطارده لأيام وتحرمه النوم، احتارت زوجته في ما حل به، وما هذا الكرب الشديد الذي ضربه حتى انقلب إلى شخص كئيب؟ .. سترتاع من هول الصدمة وأنت ترى الناس يقطعون الشارع إلى الرصيف الآخر كي لا يقابلوا طلعتك البهية، وآخرون سيحملقون في وجهك بِغِلٍّ شديد، وستعرف معنى قهر النفوس عندما تشعر أنك منبوذ، وستشعر بالقهر أكثر عندما يصافحك مدرسون طيبون تجاوزوا الضعف وصغر النفس، صاح النادل :

- على القصّاص أن يسجل للتاريخ، وينتصر للأجيال القادمة على سادية الفج الأجوف !

كنتَ قد حاولت قهرهم وقهر فلذات الأكباد الذين عرفوا من هو ذلك الشرطي الجلف الذي زارهم ونفث سمومه في هواء فصلهم الدراسي، هؤلاء هزموك وخسئ حضورك في كل المدارس التي زرتها بروح بوليسية مريضة، وفي الجوار أُشير إليك دائما بالبنان ...

 قالوا في البادية كلاما لا حصر له عن حقيقته السلطوية، عندما يزور قريته يستقبله متزلفون في غاية الحقارة، ويمقته الجميع حتى هؤلاء المتملقون لأجل مآربهم، كان يتوسط لهم هنا وهناك ويلهف عسلهم .. وفي المدينة قد عرفوا كم أنت عدو لكل ما هو جميل في الحياة، عدو للمدرس  وللتلميذ وأنت تدعي العكس، إذ كان همك إحباط عزيمتهم وهمتهم ونشاطهم، لا لشيء إلا لأن أداءهم ذكرك بفشلك الذريع، كنت تُحَضّر لامتحان ولوج سلك التفتيش كي تهرب من التلاميذ الذين كنت تنعتهم بالمزعجين المشاغبين، وكنتَ تكيل لهم أقذع الألفاظ، وعند اقتراب امتحان المفتشين تغيب عن الفصل طويلا فيفرح الأطفال ويبتهجون كثيرا، لم يكن أحد منهم يَوَدُّك، كانوا يسمونك "خشبة"، لأن أفقك متخشب، متسلط، موهوم بالأبهة والهيبة، مولوع بالكرسي الدوار، كرسي السلطة العفن.

في طريقه إلى البيت نجا من حادث محقق، دراجة نارية زاعقة حامت حوله يمنة ويسرة، من أمام ومن خلف وكاد قلبه أن يتوقف، ركن السيارة جنب الرصيف وأمسك رأسه مذهولا مرعوبا .

قضيتَ ردحا تحمل صفة المفتش التي حلمتَ بها ووصلتها على حساب التلاميذ، وبرعت في ساديتك بتقاريرك البوليسية التي تعج بالأخطاء، ألم تكن تستنسخ التقارير ولا تُغَيرُ منها أحيانا كثيرة غير اسم المدرس والتاريخ؟ ضجت القاعة بالضحك، صاح أحدهم في وجه مسير الندوة :

- على الوزارة أن تعزل مفتشي الشرطة من قطاع التربية الوطنية !

لا داعي لقرار الوزارة معك، المعاش سيفصلك، وها أنت الآن قد بدأت تفكر في حالك يوم التقاعد، ويل لك ! ستطاردك اللعنة أينما حللت وارتحلت، حتى أقرب الزملاء إليك قد بدأوا يتحاشون لقاءك، هل تذكر أنك كنت دائما تختار الامتحان الأصعب للتلاميذ، كي تثبط عزيمتهم في الجهة كلها ؟ وتَرْكَنُ إلى كل ما هو سهل لك، بعد الآن ستفكر كل يوم في امتحانات التقاعد الصعبة، أين ستخبئ وجهك؟ 

قام من فراشه الذي صار كوهيج النار، خرج إلى الشرفة، أشعل سيجارة، دخنها بشراهة، لعل النوم يدنو من جفنيه، وفي تلك اللحظة، قلت لعامل التصفيف بالجريدة أن ينشر القصة في الصفحة الأخيرة، كي لا تبقى حبيسة الصفحات الأخرى، وتتمكن من تنفس هواء نقي حتى وإن طواها القارئ. 

#عبد_القهار_الحجاري #ظلال_وقطوف

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال