في جناح القلب
آي .. يا ماّ !
آه يا رب ! .. لطفك !
يئن .. أتمزق .. يجزه الألم ....
... تخترف النصال أحشائي ...
... ليلة بيضاء أقضيها إلى جانبه.
روحه في النبضان المتعب، ومهجتي في احتراق ...
كان عده العكسي قد بدأ، من يرف له طرف الآن ؟ ما من ذرة فيّ تود إلا أن تكحل بالسهاد، كيف لي استساغة المنام والعزيز في ذروة الألم ؟ صرخات مكتومة تند عنه، تجزّ لي عرض الضلوع.
في منتصف الليل، حضر ممرض، قال إنه مسؤول المداومة، حتى الصباح، لم يبق أحد بالجناح إلا المرضى وأنا وهو، لم أتحمل البقاء ممددا على السرير، بسبب العياء والقلق .. رأسي تحت رحمة منشار صداع رهيب، رغبت في تدخين بضعة سجائر، طلبت من الممرض أن يسمح لي بالخروج إلى حيث يمكنني أن أشم قليلا من الهواء وأدخن، سار معي في الردهة الطويلة وسط سكون ممزق بأنين الألم والخوف من النهاية، فتح بابا يفضي إلى سطوح فارغة مظلمة، خلتها جوف كائن خرافي متوفز لابتلاع جسدي الهزيل، قال لي الممرض يهمس بأدب جم :
- تفضل أخي ! خذ راحتك ! .. سألتحق بك بعد قليل، حالما أنتهي من تفقد الغرف.
الليل بهيم، الصمت يطبق على المستشفى بأكمله، في الأسفل خلف السور الذي تصطف بمحاذاته أشجار الصفصاف السامقة، كان الشارع خاليا من المارة، تمرق تحت أضوائه السيارات، أشعلت سيجارة، وطفقت أدخنها بشراهة، لم أكد أنه الثانية حتى دخل الممرض المسؤول عن المداومة طيلة هذه الليلة العصيبة، طلب مني بهدوء مريب أن أصحبه إلى إحدى الغرف لأساعده في أمر ما.
في الغرفة الواسعة المخصصة للنساء المضاءة بمصابيح شديدة الإنارة، رأيت المريضات بعضهن ذابلات يتشبثن بالأمل .. جميعهن على أسرتهن، أخريات غلبهن النعاس، ومنهن من تتألم، إلا مسنة كانت قد تركت سريرها ونامت على لحاف بأرضية الغرفة ...
- المسكينة تحب الأرض ! ...
قال الممرض.
تنام على جنبها الأيمن، مقوسة الظهر، منكمشة .. انحنى الممرض نحوها وطلب مني أن أحملها معه لنعيدها إلى سريرها، أدار جسدها، ليحملها من تحت إبطيها، فاستدار وجهها قبالتي، عيناها مغمضتان، فمها فاغر، انتابتني قشعريرة رهبة باردة للحظة، وحين أمسكت برجليها، بدا لي أنهما متصلبتان مثلجتان، تسللت قطرات عرق غريب بارد من قفاي إلى ظهري تحت ركام الملابس التي أتلفع بها لاتقاء البرد، سرت في أوصالي رجفة موجعة .. كدت أتركها تتجرجر حين نظرت مشدوها إلى الممرض، قسمات وجهه جامدة .. شاحب، هادئ جدا، ابتسم لي وقال من دون تأثر واضح :
- ربما ترى جثة لأول مرة .. لقد ماتت ! أمر عاد جدا !
وضعنا جثمان المرأة المسنة على السرير .. تركت هذه الغرفة، إلى غرفة الإنعاش، حيث العزيز كان قد غلبه النعاس، تأملته قليلا .. دخل الممرض توا يطمئنني :
- إنه نائم .. يمكنك أن تنام الآن !
- أنام ! ... كيف أنام ؟
همس لي مبتسما :
- كجميع الناس !
- لا .. النوم الآن خطيئة ! سأدخن قليلا ...
خرجت إلى السطوح ثانية، لحق بي الممرض .. جلسنا على مقعد اسمنتي وسط الظلام، أحسست به فجأة، كأنما في حلقه كلام عالق يريد أن يلقي به في امتعاض .. انفلت مني السؤال :
- هل أنت بخير ؟
ضحك .. تلهى بإشعال سيجارة .. حاول أن يصرف انتباهي إلى أي شيء، سألني إن كنت أحب أن يضيء المكان، فأجبته بالنفي.
انطلق أخيرا :
- هل تصدق ؟ النوم كالموت .. هكذا يقولون .. لكن الحقيقة .. هناك من هو ميت وهو لا يدري .. وكثير ممن غادروا هذه الحياة لم يموتوا ! إنني مثلك أحس بالألم عندما يتألم هؤلاء ...
- أكيد ! .. أنت محق ! ...
- أنا أحس بك الآن ربما .. أنت قلق .. نطلب من الله الشفاء للجميع ....
سحبت نفسا عميقا من سيجارتي .. قلت :
- أرجو أن تهمد آلامه وآلام كل المرضى، لينعموا بالنوم قليلا ...
أحسست بالبرد يتغلغل في عظامي، أخذت أسحب نفسا تلو الآخر من سيجارتي، لأستشعر قليلا من الدفء، أنهى الممرض سيجارته وانصرف إلى إحدى الغرف، هممت لأعود بدوري إلى غرفة الإنعاش، لأقضي ما تبقى من الليلة إلى جانب العزيز، فكرت في آلامه التي أتصور ربما، حدتها كلما انفلتت منه أنة استنجاد بأمه، برغم صلابته :
- آي ... يا مّا ! ...
صرخة تمزق الأحشاء، كما اللهيب يصعد في الأوصال مرات عديدة .. أغلقت باب السطوح .. مشيت برفق نحو الغرفة ...
تيار بارد يشق دماغي ....