طوية معتوه

 طوية معتوه*

قصة قصيرة 







التقيت به صدفة .. كان المطر غزيرا والبرد قارسا، في وسط المدينة، يجوب شارع مراكش جيئة وذهابا، بلا مطرية .. شاحب، شارد، مذهول .. شفتاه تتحركان كأنه يتمتم، لا يحفل بالبلل والبرد ولا بالسوابل .. استوقفته، تجاهلني، أو هكذا خيل إليّ في أول وهلة، كان عالم آخر قد أخذه تماما .. أمسكت بذراعه، وحاولت أن ألفت انتباهه إليّ :

- أسيكو ! .. أسيكو !
تملص مني وواصل سيره، بلا هدف، بلا حضور حقيقي، لحقت به .. قطعت طريقه، أفردت ذراعي أمامه .. صحت به :

- أسيكو ! .. انظر إليّ ! أنا مصطفى 

تبين لي الآن أنه لا يراني ولا يسمعني .. لا يحس بشيء خارج ملكوته، ما الذي أصابه ؟ بل ما الذي أصابني أنا !؟ 

طرف نقيض للعالم، نشاز، خيالات أثيرية .. روح تتشظى، هيكلها غدا هلاميا .. أنا ربما من يسير بلا اتجاه ؟ أرى المطر، أشعر يالبرد، من خلال مرآة كبيرة نفث على أديمها نفَس مكدر، فصارت الملامح فيها باهتة، لا أدري إن كنت أنا الذي بداخلها، أسير في شوارع مدينتي التي لا أعرفها، ولا أعرف فيها جنس كائن .. ما من أحد ينظر إليّ حين أكلم أرواحي سوى هذا الذي كان صديقي، هل يراني ؟ هل يتعرف إليّ ؟ أسير حافي القدمين على الإسفلت الملتهب .. على الزجاج المتكسر والأحجار الناتئة .. لم يبق ليةدم لينز في أي مكان من جسدي المشروخ .. ماذا أريد ؟ أي نقطة أشرئب إليها ؟ كل شيء على الطرف النقيض متواز معي .. ربما يكون اللقاء في نقطة ما خارج الأرض، فلا زالت الهيولى تعتمل لتشكل كونا يجلبني أكثر فأكثر، لكنه شارد، لا يراني، ربما كان يرى فيّ ما لا أحتمل :

أسيكو ! .. أرجوك تعال معي !

سفر مني، يعود أدراجه .. أتبعه .. بدأت أحاول الآن أن أوقظ فيه أي ذكرى بيننا.
هل نسيت يا صديقي العزيز الأيام الجميلة التي قضيناها سوية في الدراسة الثانوية ؟ وبعدها لما أحضرت ذلك الجندي صديقك إلى مدرسة المعلمين، يومها أدرجته ضمن المعينات لتشرح لتلاميذ الصف الثاني درس القراءة في امتحان التخرج الذي كان موضوعه الجندي ؟ يومها كركر أعضاء اللجنة حتى سالت دموعهم .. هل نسيت المقهى الشعبي والسجائر الرخيصة وبراد الشاي العشري، في جلسة الحصير ؟ كنا نجلس القرفصاء متحلقين حوله كل صباح حين ينضم إلينا آخرون، وفي كل مرة يتكفل أحدنا بدفع ثمنها الوعيد الذي لا يتعدى ثلاثة دراهم، لن أنسى أنا أوراق تلفيف الزبدة، وهي الأرخص من أوراق الطباعة، كنا نشتريها بالميزان، حتى تكفينا لاستيعاب عشرات التمارين والمعادلات الرياضية الصعبة، عندما كنا نحضر لامتحانات الباكالوريا :

- أسيكو ! .. أرجوك ! .. أجبني ! .. هل أنت خائف ؟

أنا كائن هارب من الأضواء والأنواء، وأشباح الخوف السارحة في كل مكان .. والآن، ما الخوف ؟ سراب وجبن يتخلى في الظلمة التي صارت تحتل كياني .. أسير في جوفها منذ غاب نور حياتي .. أصرخ في الليل :

- أين أشباحك يا خوف ؟ تعالي يا ذروة الجبن ! 
تفر الكائنات والأرض من تحت قدمي الحافيتين، الغيم خلف السواد، .. الأزهار البرية والأشجار .. برك الماء في الوادي الراكد .. حتى الجن تلفع بالسكون، همدت أطيافه، نباح الكلاب لم أعد أسمعه .. أنا الطود الآن .. أنا قاهر السواد حتى وإن بللني المطر، ! ثم ماذا ؟ لاشيء، كل قطاع الطرق فروا، حسبوا خيلاتي ٱطياف مارد، أهيم بلا توقف على الإسفلت، في الطريق الترابية .. خارج كل طريق، أدوس الأشواك والحشرات اللاذعة الطريق تحت وطأة قدمي الحافيتين مثل الحرير، أين الألم ؟ أين الخوف ؟ أين قطرة واحدة من دمي ؟كل السيارات تمرق كالشهب حين تداني طيفي .. تحت المطر الغزير والبرد القارس .. يسير وأتبعه، ماذا أفعل يا ربي ؟ أمسك كتفه بيدي، أهزه بعنف، لينظر إليّ، ليقول لي أي شيء .. دون جدوى، عقلي يزن الكون، لكني تشظيت، كنت وسيما، أنيقا وبياض قلبي كبياض الثلج، لكنه ملتهب، كانوا يتهيبون مني .. يخافون كلماتي وأشعاري، لم أحلم قط باعتلاء الثريا، كان كل همي أن أفهم .. لكنهم زجوا بي في غيابات الظلمة، بل أنا من اختار ! .. قيل لي ذات صباح نوره وهاج :

- اختر بين أن تفهم أو تعيش !
- لن أعيش ما لم أفهم 
- انخرط في المدار تسلم !
- لكم مداركم ولي مداري 
- فلتتحمل إذن !

وانقلب النور الوهاج سوادا دامسا، صرت كما أنا الآن .. أدب على الأرض، لكنها تفر مني أسب وألعن .. ولا من يحفل بي .. لم يبق لي شيء لم يسلب مني، ولو لعنت الكون جهارا لأني مت .. ولن أحرك فيهم شعرة واحدة، لأنهم أقنعوا العالم أني معتوه، هل أجاريهم وأتركهم يعتقدون أن بي خبل ؟ كي ألملم كلماتي وأنظم أشعاري، أم تراني انكسرت، صرت سرابا .. وهما لا يوجد إلا في هلوساتي !؟ 
في منحدر تحت أشجار الزيتون وجدت رجالا يبكون، ، يشربون بحرقة وجنون، عانقوني وحين صحوا استعاذوا بالله وفروا مني .. قالوا إنني شاعر أجْرَب، أفردني الكون كله أكثر من طرفة، وحين رجعت إلى المدينة كان مطر ملوث يهطل بغزارة، والبرد الشديد يجدع الأنوف .. رأيت جميع الناس رجالا ونساء وأطفالا ينهالون علي بوابة من الحجارة، بينما أواصل سيري، لا أحفل بأي شيء، ولست أدري إلى الآن إن كنت أنا أسيكو الذي يهيم تحت المطر الغزير والبرد القارس، وسط المدينة، يروح ويجيء في شارع مراكش غير عابئ بالبلل والبرد والسوابل ...
ما من أحد يدري إن كنت أنا ذاك المعتوه.
* قهوة الروح الجديدة، قصص، منشورات دار التنوخي، آسفي،ط1/ 2007، ومنشورات مقاربات، فاس، الطبعة 2- 2011

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال