دروس الكرة المغربية
المستحيل ليس مغربيا
::::: نعم إنه يلعب لأجل أمه لأجل أمته، فلنستخلص دروس الكرة المغربية، ولنبلور نظرة جديدة لكرتنا وذاتنا ولوجودنا وللعالم، فنحن عانينا كثيرا ولعقود من ذهنيات التسلط والاستبداد بالرأي والانتقاص من الذات وتضخم عقدة الآخر، والعمى النظري... ومن جراء ذلك نشأت في مجتمعنا نزعة عدوانية معادية للنجاح، حتى صار أعداء النجاح في كل صوب وحدب، في كل ميدان أصبح شغلهم الشاغل تحطيم الإرادات والقدرات متسلحين بما توفره الشبكات من نشر وانتشار واسع النطاق، فانتظموا في جحافل تهاجم أي عمل إيجابي وبناء :::::
1- ضد الدوغمائية
هي الاعتقاد الأعمى بفكرة مهما صارت غير صالحة للعصر، هي كل فكر متحجر مُحَنًط لا يريد أن يتغير، لقد كُرستْ لزمن طويل عقيدة جامدة خاطئة أن الكرة "أفيون الجماهير"، والحال أن الكرة رياضة وتنفيس للشعب، إن ارتقت صارت دعامة للوطنية والمواطنة، وإن بقيت في الحضيض صار دورها سلبيا مكرسا للتخلف، لماذا لا نقول عن الكرة في العالم المتقدم إنها تخدر الناس ؟ ولماذا نعجز نحن عن جعل هذه الرياضة وغيرها مدخلا لحفز النجاح في الميادين الأخرى ؟
تعجز الدوغمائية عن فهم ما يجري، وهي تذكر الناس بعدم نسيان الفقر والبطالة والفساد الشامل والهشاشة والاعتقال السياسي وقمع الحريات... تذكرنا بهذا في عز الفرح العالمي العارم بفوز منتخبنا فوزا تاريخيا، وتأهله لنصف نهائي كأس العالم، كأنهم يستكثرون لحظة فرح على هذه الجماهير المضغوطة - منذ زمن بعيد - الواقعة تحت نير القهر الطبقي، ومع ذلك، لم تفوت هذه الفرصة للتعبير عن حبها لهذا الوطن، وقد رأينا كيف تبلور الاحتجاج الاجتماعي بأناشيد راقية منذ سنوات من داخل الملاعب الرياضية، في مقابلات الأندية، في غياب أي دور تأطيري للمجتمع السياسي وهو الذي لا يزال خاضعا لهذه الدوغمائية.
2- من أجل حسن تقدير الذات وضد استبطان الدونية
حسن تقدير الذات عبر عنه الرگراگي بقولته التي أصبحت نارا على علم "دير النية"، أي ثق في ذاتك في قدراتك، وثق في قدرات فريقك، حسن تقدير الذات هو معرفة نقاط قوتنا ونقاط ضعفنا، وقد رأينا - ولا زلنا نرى - أشخاصا يستهزئون من بعض الآراء المتفائلة بخصوص انتصارات فريقنا الوطني منذ بداية مباريات كأس العالم بقطر، ويسخرون من بعض المنشورات المتوفرة على شيء من تقدير الذات، كما شهدنا تنمرا خطيرا بلغ حد سب الوالدين لبعض اللاعبين، ومنهم النصيري صاحب الهدف البطولي الذي لم ينل منه هذا العدوان النفسي من طرف عدد هائل من متنمري ما يسمى بصفحات التواصل الاجتماعي، بل أعطاه شحنة ودفعا مكنه من إثبات قدراته الهائلة في المباريات الأخيرة خاصة لقاء المغرب - البرتغال، ونلاحظ استكثار قطاع واسع من رواد الشبكات هذا النصر الساحق للمنتخب الوطني بمنشورات ساخرة تنطوي على احتقار الذات واستصغار قدراتها، عندما تأهلنا لثمن نهائي الكأس انبرى هؤلاء يتوعدون ذواتِهم بهزيمة نكراء أمام المنتخب الإسباني، وعندما فزنا وتأهلنا للربع، قالوا "هذا يكفي ! إنه أمر لا يصدق ! ... " وتوعدوا أنفسهم بهزيمة ساحقة أمام البرتغال، فخاب ظنهم مرة أخرى، وها نحن تأهلنا لنصف النهائي، ومن الممكن جدا فوز فريقنا بالكأس، وها هم يستمرون في التنمر على الذات، وأخص هنا بالذكر قطاعا واسعا من جمهور المغرب في الصفحات الرقمية، والأمل في الفوز ليس مبعثه الشعور الوطني وعاطفة الانتماء فحسب بل وأيضا نبلوره انطلاقا من تقديرنا الموضوعي لمنهجية اشتغال المدرب الوطني المتميز الخاطف للأنظار عالميا وليد الرگراگي والفريق الوطني والروح الجديدة الإيجابية التي لمسناها فيهم وتتسم بالجد والعمل بحماس وتناغم وانسجام...
إن الفاشلين الذين لا يكفون عن البكاء واستصغار الذات، سيظلون فاشلين ما لم يدركوا قوتهم أين تكمن، وما لم يعرفوا أنهم ضحايا استبطان الدونية والعجز، سيظلون في دور الضحية ما لم ينفضوا الغبار عنهم والكسل، وما لم يتشمروا بالجد والعمل، هذا درس للحياة ولكرة القدم المغربية التي ظلت طوال عقود خاضعة لمركب النقص وتبجيل الآخر، وعدم الإيمان بالإطار الوطني واللاعب الوطني، وتغيير فلسفة الكرة المغربية قد بدأ مع هذه المرحلة التي يبرز فيها الناخب الوطني وليد الرگراگي إطارا وطنيا كُفءً ومبدعا وصانعا للأمل بخططه البيداغوجية وبطرائقه الفعالة.
3- من أجل حسن تقدير الآخر
يرتبط حسن تقدير الذات بحسن تقدير الآخر، وهو معرفة موضوعية بنقاط قوة ونقاط ضعف الآخر، من دون تهويل ولا تبجيل، ويتبع هذا التقدير الجيد التخطيط العقلاني للعمل وتسطير برامجه العملية والدقيقة، والقيام بالتنفيذ ثم التقويم والوقوف عند العثرات والأخطاء من أجل تطوير الذات.
نحن شعب لا نحسن معرفة الآخر معرفة موضوعية، لأننا أقرب إلى الانفعال منا إلى العقلانية، ننبهر بسرعة به حد التبجيل، وهذا أمر ينسحب على الكرة وعلى جميع الميادين، "الخارج" دائما عندنا هو النموذج، ذلك لأننا عرضة لاستمرار عوامل التأخر التاريخي، واستمرار التبعية للغرب والاستهانة بالرأسمال البشري، وعدم الاعتراف بالإبداع المحلي مهما كان قويا.
إن معرفة موضوعية بذات الآخر في كرة القدم، تمكن المدرب الوطني من تحديد مكان الصلابة والهشاشة في الفرق القوية عالميا والاشتغال عليها مع الفريق الوطني، وهنا تأتي أهمية دراسة تجارب الأندية الناجحة واستخلاص أسرار نجاحها والاستفادة منها.
إن ما يسيء كثيرا إلى الكرة المغربية ذهنية "مطرب الحي لا يطرب" وقد عانى منها الفريق الوطني سنوات طويلة، وآن الأوان لتغييرها، لأنها ذهنية تنتقص من الذات وتعلي من شأن الآخر إلى حد التبجيل، فماذا كنا ننتظر من لاعب وطني يبذل جهدا مكبلا بشعور سلبي يستبطن الدونية وتبجيل الآخر ؟ وماذا كنا ننتظر من مدرب أجنبي مهما أحب منتخبنا وبلادنا سيظل حبه لوطنه أكبر ؟
4- مع الإيجابية وضد السلبية
استطاع المدرب الوطني وليد الرگراگي أن يحدث الفارق النوعي بفضل المنهجية التي يشتغل بها، وقد أعطتنا الفريق الوطني الذي أمامنا بكل منجزاته التي لا تصدق في زمن قياسي، هذه المنهجية تقوم على ضخ الطاقة الإيجابية بين عناصر المنتخب الوطني، مع نقد الأخطاء وتحديد نقاط ضعف الفريق والتركيز على الذات الجماعية للفريق... فالحافزية لا تتحقق إلا بنشر الطاقة الإيجابية وهي دينامو الاشتغال البناء، فالإبداع والتميز ظاهرة فردية، ولا يمكن الحديث عن جماعة مبدعة يتشرب أفرادها الإحباط والظلم والتعزيز السلبي والتقليل من شأن اللاعب وعدم الانصات له، كأنه جندي يتلقى الأوامر والتعليمات وعليه تنفيذها بحذافيرها وإلا عرض نفسه للعقوبات... ذلك زمن ولى، كان فيه التسلط عقدة ومسار حافل بالألم والإخفاق، الطاقة الإيجابية تظهر في إشادة المدرب بجميع عناصر المنتخب الوطني بدون استثناء ولا ميز، وبأنهم مجموعة متجانسة منسجمة، وتظهر الطاقة الإيجابية في تركيزه على الفرادة التي تقوم على مراعاة الفروق الفردية بين اللاعبين واختلاف قدراتهم في ميدان اللعب، لكنهم في الأخير جسد واحد، ولا يفوته أن يقول في كل مرة إن لكل لاعب قدراته التي تميزه عن الآخرين، وزرع الطاقة الإيجابية واضح في زرع الأمل من دون ادعاء أو مزايدة، مرتكزا في ذلك على حفز إبداع كل واحد من فريقه وتنفيذ ذلك في الميدان.
إن التغلب على الشعور بالعجز أمام الصعوبات، ودحر الطاقة السلبية عبر إشاعة روح الإبداع وحفز إرادة الفوز وإبراز ما يتمتع به كل لاعب من إمكانيات، ونشر أجواء الإنصات للاعتراضات والتفهم والتواصل البناء والاتفاق حول الأهداف والخطط... كلها تشكل المنهجية الصحيحة للعمل الناجح.
-5 من أجل تعزيز الشخصية المغربية
الشخصية المغربية ليست وليدة اللحظة، بل هي صيرورة تشكل تاريخية استغرقت عدة قرون، ينطق بها التاريخ والحضارة، في المعمار ونمط الحياة وتنوع الثقافة وتعدد الألسن... وتبلورت سمات هذه الشخصية في الانسجام واللحمة على أساس التنوع والاختلاف والتسامح والروح الوطنية وحس الانتماء للإنسانية ولشمال إفريقيا والمنطقة العربية من دون كراهية ولا تعصب ولا شوفينية، والميل إلى التضامن والتآزر والتشارك... كل هذا وغيره من القيم التي تعكس الشخصية المغربية، ينقصه تقدير هذه الشخصية والعمل على تعزيزها وتقويتها بنشر روح كروية جديدة قائمة على التميز المغربي، وتحقيق ذلك في تغيير فلسفة الاشتغال داخل الجامعة الوطنية لكرة القدم، وبوادر هذا التغيير واضحة في التقدم الحاصل اليوم مع الناخب الوطني وفريقه والأداء الباهر لهم في التقدم في مباريات كأس العالم.
تعزيز الشخصية المغربية يعني كسر التبعية في جميع المجالات لا في الكرة فحسب، فالتبعية تعني عدم الأهلية، وأننا لسنا قادرين على تدبير تعليمنا واقتصادنا وسياستنا وحياتنا وثقافتنا ورياضتنا... وكلما قلصنا من التبعية للخارج كلما تقوت شخصيتنا الوطنية أكثر وهيأنا سبل النجاح والتقدم، وأصبحنا أمة يضرب لها ألف حساب.
نعم نحن أمة يمكن أن يصير لها شأن عظيم، في عالم معقد حافل بالتحولات العميقة، لا مكان فيه للكيانات الضعيفة المتأخرة، ومن شأن استخلاص هذه الدروس وغيرها من مفاجآت الكرة المغربية بمنافسات كأس العالم أن يساعدنا على تغيير تفكيرنا وطرائق عملنا لتحقيق ما نصبو إليه، فالتغيير قدرنا والتقدم آت لا محالة، والمستحيل ليس مغربيا.
#عبد_القهار_الحجاري