موسيقى الوجدان في القصيدة المغربية
نحو تلقيات جمالية للشعر
نماذج من شرق المغرب
عبد القهار الحجاري
●الشعر دفقات ونفحات موسيقية، تتوسل بالعبارة الراقية الأنيقة العفوية من دون تكلف أو تصنع، والموسيقى نظام واتساق وجمال نغمي- إيقاعي، وهي جوهر الشعر إن افتقده صار مجرد كلام لا يختلف عن أي قول بسيط، والشعر روح الموسيقى، حتى الآلية منها تستلهم تآلفها من دفقاته الشعورية، ولذلك قيل إن الشعر صنو الموسيقى.
تنشأ موسيقى الشعر في صوغ النص مما يعتمل به وجدان الذات الشاعرة وبما تجيش به انفعالاتها من مشاعر أصيلة صادقة، تخرج شحنات تعبيرية ودفقات شعورية بألوان نغمية وإيقاعية مختلفة.
هذه قراءة تقدم تلقياتنا لجمالية الشعر، نتلمس ونتذوق رونقها الموسيقي من خلال نماذج شعرية من شرق المغرب ●
1- موسيقى الوجدان وتلقي الشعر
يكون تلقي الفن ومنه الشعر لدى القاريء -وليس الناقد فحسب- خاضعا لشخصيته؛ أي لرؤيته وتصوره وتكوينه الثقافي والعلمي ولمشاربه وتجاربه في الحياة، ولمدى تشبعه بالجمال وبقيمه النبيلة... وتذوق الفن عامة والشعر بخاصة هو من ذلك التلقي، من هنا تنهض هذه القراءة وتقوم على تلقي النص الشعري جماليا، تستكشف شعريته الموسيقية، وتتذوق أفنان تعابيره في بعديها النغمي والإيقاعي بتوافقاتهما وألوانهما، وفي ارتباط بانفعالات النص الوجدانية ودفقاتها الشعورية المنداحة تلقائيا من دون وصاية للمعيار والنمط.
إنها قراءة تمتح من جمالية التلقي وجمالية الموسيقى، وتقوم بنقد النزعة العروضية المعيارية التي تختزل الإيقاع الشعري بل موسيقى الشعر برمتها في الوزن، وهو بطبيعته لا يعدو أن يكون بعدا من أبعاد الإيقاع، أساسه توالي الحركات والسكنات وفق نسق معين، لا يمسك من يقف عنده في الحداء -وهو أداء منغم بالطبع- غير وقع حوافر الناقة في بيئة صحراوية، دون الالتفات إلى نغميته، فكيف له أن يتلقي النغم في بيئة طبيعية وثقافية تحفل بالسلالم وتعدد التصويت والهارمونيا والتوافقات والتعبير الموسيقي الثر...
قد يكون الوزن في النص الشعري وجها من أوجه الإيقاع، ما لم يكبل تلك الدفقة الشعورية ولم يقيد جموح ذلك الانفعال، وأشمل من الوزن الإيقاع الذي يبرز كمفهوم رياضي يقوم على توالي وتناوب عناصر وأجزاء متقابلة وفق نسق معين، وبهذا يتأتى الإيقاع أيضا من انتظام توالي الصور والانزياحات والرموز والأصوات وتناوب الشعور والإيحاء والحلم ولحظات التاريخ والأسطورة والخرافة ووميض الإشراقات...
أما موسيقى الشعر فتتكون من الإيقاع والنغم، وهذا الأخير يظهر في تفاوت الانفعال واختلاف درجاته، تماما كما تتفاوت أمواج البحر حسب قوته ولينه وشدته وهدوئه بين لج هادر صاخب وموج هاديء وديع، فالانفعال يعلو وينخفض، والدفقة الشعورية تتفاوت شحناتها ووتيرتها وارتفاعها، فالنغم هو سلم الانفعال في النص الشعري، يقابله سلم الدرجات النغمية في علم الموسيقى.
ولعل من أسباب أزمة الشعر اليوم ضرب وتفريق الحساسيات الشعرية، بعد أن كانت منصهرة كلها في بوتقة الشعر، وتحول التصنيفات النقدية والمفاهيم المدرسية الإجرائية إلى اكليشيهات بعيدة عن روح الشعر، من قبيل "الشعر الحر" و"الشعر التفعيلي" و"قصيدة النثر"... وترويج لافتات أخرى مغلوطة مثل "الشعر النسائي" و"الشعر الإسلامي" و"الشعر الغنائي"(1)
ولإرجاع الأمور إلى نصابها يجب أن نقول بصوت عال إن الشعر هو الشعر، وإذا كان الشعر فنا -وهو كذلك بلا نزاع- فقد ثبت أن موته في المعيارية كما في الابتذال، وهما وجهان لعملة واحدة، المعيارية تنميط قاتل للإبداع، والابتذال تبخيس خطير لجودة الشعر، والأخطر من ذلك كله اجتماعهما في ما يقدم على أنه الشعر من جهة الانضباط للمعيار مع ضحالة روح الشعر وفقر وجدانه وسطحية رؤيته وسماجة تعبيره.
وفي شرق المغرب تجربة شعرية رائدة متنوعة الحساسية بعضها قديم نسبيا يرجع إلى أواخر الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، ومن شعراء تلك الفترة: محمد بن عمارة، محمد لقاح، حسن الأمراني، محمد علي الرباوي، الطاهر دحاني، الحسين قمري، البشير قمري، محمد فريد الرياحي، محمد منيب البوريمي، عبد السلام بوحجر...وتجربة هؤلاء كانت تأسيسية محليا ضمن حركة الشعر العربي الحديث.
شعراء آخرون ترجع تجربة بعضهم في المشهد الشعري المغربي والعربي إلى الثمانينيات، ولهم حضور لافت في المنابر الأدبية المشرقية ومن بينهم: مصطفى بدوي، محمد ميلود غرافي، جمال أزراغيد، عبد القادر لقاح، ميلود لقاح، الطيب هلو، يحيى عمارة، مصطفى قشنيني، عبد القادر الطاهري، علي العلوي، ثريا ماجدولين، الزبير خياط، بنسامح درويش، جمال بوطيب وبوزيان حجوط...
وشعراء شبت تجربتهم الجميلة الواعدة في زمن الرقميات والعولمة نذكر منهم: سميرة فرجي، مراد معلاوي، عبد الإله مهداد، بوعلام دخيسي، دنيا الشدادي، ندى الحجاري، البتول محجوبي، نجمان لقاح ومحمد النابت ....
2- إيقاعات الانفعال الشعري
الشعر دفق عفوي للمشاعر في أبهى صورها، ولا يكون هذا الدفق على وتيرة واحدة بالضرورة، هذا يتوقف على الانفعال الفني، إنه نسق من الجمال يخلقه الشاعر، وإذا خضع لجبروت المعيار والنمط صار باهتا شاحب الملامح.
تأتي الدفقة الشعورية على وتيرة معينة؛ أي على شكل إيقاع يستوعب الوزن ويتجاوزه نحو صوغ متواليات تعبيرية في صورة مقاطع متناظرة أو متتابعة أو متكررة.
لنصغ هنا "في أسطورة هيلين" للشاعر الراحل عبد السلام بوحجر(2)، لنتأمل نبضان هذا الإيقاع النابع من أعماق وجدان الشاعر ونرهف السمع للدفقة الشعورية التي تعبر عنها المتوالية المتكررة بروح خلاقة، فهي تحافظ على بنائها لكنها تتغير دلاليا وبلاغيا، فتبدأ دائما بإشراقة أخاذة للعبارة "في أثينا"، وقد صنع منها قافية تستعير روح الحماسة من مطلع معلقة عمرو بن كلثوم:
ألا هُبّي بِصحْنِك فاصْبحينا ولا تُبقي خمور الأندرينا
وتقبس من وهج ورونق قافيتها المنتهية بروي النون الممدودة بالألف على وزن فعلن (/0/0) أ(ثينا)، الرائـ(عينا)، أند(رينا).... ليقدم نصا خلاقا للجمال، يوظف أسطورة هيلين اليونانية ليصوغ أجواء ساحرة "في أثينا" يتداخل فيها التاريخ بالحاضر والأسطورة بالواقع والحقيقة بالمجاز والذات الشاعرة بحبيب هيلين الضائع.... هيلين تلك الأنثى فائقة الجمال التي تسببت بحسنها الفتان في حرب طروادة الطاحنة وحصارها لمدة عشر سنوات ...
تبدأ المتوالية التعبيرية بعبارة "في أثينا" وتنتهي بالقافية التي ذكرنا منتهية بروي النون الممدودة بألف لينة (...نا)، وعند تكرار المتوالية في صيغة أربعة عشر مقطعا مختلفا في كل مرة، يختم الشاعر القصيدة بقفلة يتكرر فيها إيقاع "في أثينا" ثلاث مرات:
"في أثينا
يصعدُ اللحنُ حزينا
يرتدي أفْق المدينهْ
حينَ تُلقي نَفسها هيلينُ في النهرِ
وتمضي وحدها في رحلة الحب الكبيرْ :
يا حبيبي قد طعنتَ الروحَ
فاخترتُ أنا الموتَ حياة ويقينا
مثل كل العاشقين السابقينا
في أثينا
في أثينا
في أثينا" ص27
وعلاوة على إيقاع المتوالية التعبيرية التي تظهر في صيغة مقاطع متناظرة، نجد إيقاعا آخر خلابا للألباب وهو إيقاع الحلم والأسطورة كما أعاد صوغها هذا النص الشعري الجميل في إيقاع رشيق بهيج، جعل التجوال "في أثينا" أقرب إلى سحر الحلم وفنتازية الأسطورة، وهما يتعاقبان كتعاقب النهار والليل ثم يتحدان ويتكرران معا كما يلي:
الحلم~ الأسطورة~ الحلم~ الأسطورة~ الحلم+ الأسطورة ~ الحلم+ الأسطورة....
وعندما يتكرر اتحاد الحلم بالأسطورة تتداخل الفضاءات والأزمنة والذوات والمشاعر... فتهفو الأنا إلى هيلين كأنه حبيبها، وتهفو هي إليه كأنها هيلين أخرى في الزمن الحاضر.
ومن تعاقب الحلم والأسطورة عند عبد السلام بوحجر إلى تعاقب الصور الأسلوبية القائمة على الانزياح والتوغل في المجاز عند جمال أزراغيد في قصيدته "شهيق الأرض"(3)، إيقاع الصور الأسلوبية سمة بارزة في ديوان "غنج المجاز"، ولا يكاد المتلقي يبحر في رونق صورة حتى تطالعه أخرى، في تتابع وتناسق بديع عفوي غير متكلف، يتخطى متاريس الوزن عندما يتعارض العروض وتلك التلقائية التعبيرية الصادقة فاسحا المجال أمام غنج مجازه الذي مكنه من التشكيل الجمالي لموسيقى الوجدان الصاعدة من الأعماق، في أفق حر منفتح وقوي التعبير.
تتوالى الصور البلاغية في هذه القصيدة وتتناسل في إيقاع لا يحفل بقافية ولا بروي إلا ما جاء منها بعفو الخاطر، وهو قليل في قصائد جمال أزراغيد بشكل عام، نجد تتابع الصور في المتوالية التعبيرية الأولى بعنوان "سكون" في الإيقاع التالي:
الليل رخيم~ متسلل بين الخزامى~ أنجم تشعل الشوق إلى الشمس~ أعين تسكب النهار في كؤوس السبات~ سيوف تلثمت بالوسائد~ وسائد كلما أينعت تفتقت وردا~ تفتقت حلما~ الحلم مكسور الرحيق....
لنصغ إلى إيقاع تداعي الصورة، صورة الدمار، نبضانها المرعب كدوي طبل نفاذ الصدى إلى الأعماق، حتى لتصيبنا رعشة الفزع، لننصت إلى تدافع المجاز متسقا مع تدافع الهول في المتوالية الثانية الموسومة ب"شهيق":
"فجأةً..
تشهقُ الأرضُ بقوة الروحِ في الجسد
تنفثُ هَديرَها صوْبَ هَواها
إنَّ ربّي أَوحى لَها
أن تُخرج مرعاها
بمُنتهى فحواها
أنْ تمزّقَ صَمْتها الرّطيب
بيْنَ حَجَرٍ وماءْ
هديرٌ
يَسرع السَّيْرَ لبدايةِ المَشهد
أو نِهايةِ المَكان" ص29
وفي نفس الجمالية الموسيقية كتب الشاعرعبد الإله مهداد، قصيدته "سيرة ناقصة"(4) بتجريب هندسي إيقاعي اشتغل فيه على بياض النص المتبقي في الصفحة، وهو الفراغ الذي يبقى في القصيدة الحديثة للقاريء يملؤه بآلية التأويل، فقسم الصفحة عموديا إلى قسمين متقايسين جاعلا منهما عمودين متوافقين إيقاعيا، والتوافق في الموسيقى يقوم على الاختلاف الذي يحقق الانسجام والتناغم، العمود الأول يحمل النص الشعري والعمود الثاني يحمل بياضا مخترقا بتدخلات للشاعر هدفها استفزاز القاريء ذهنيا وإقلاقه ودفعه للاستشكال بغاية حفزه على إعادة بناء دلالات النص، عبر آليات التساؤل والتفكير والتأويل، وهكذا يسير النص في لعبة السواد (الكتابة الشعرية) والبياض (الفراغ) ووفق إيقاع تناوبي بين العمود الأول والعمود الثاني، ويغلب السواد في الأول، وفي الثاني يغلب البياض، أي فراغات الصفحة ونقط الحذف والتعبيرات غير الكاملة... والتنقل بين العمودين في القصيدة هو تنقل بين السواد والبياض وهو في الحقيقة تنقل بين المقصدية والتأويل، وضمن هذا الإيقاع البنائي العام نجد إيقاعات أخرى أبرزها إيقاع الرمز، لنلاحظ تناوب السواد والبياض من خلال هذا المقطع:
آنَئذٍ:
مِنْ ضِلْعِ امرأةٍ أبصَرْتَ المَوْتَ | فعِشْتَ؛
على ضِلْعِ امرأةٍ أبصَرْتَ الحُبَّ | فَمِتَّ؛
وَكُنْتَ تَدورُ | ...
تدور | ...
وتَسْقُطُ ... | منْ فَرْطِ الصَّمْتِ
أما إيقاع الرمز فيظهر متتابعا في بداية النص كما يلي:
البابا~ ألفونسو الثامن~ كارافاخيو (caravaggio)~ الطاغية~ زكرياء~ يحيى~ المجذوب....
من يعوزه الرمز والتاريخ يعجز عن قراءة مثل هذا النص الذي يحلق بالإيقاع في آفاق رحبة، رموز دينية وفنية وسياسية وثقافية تأتي في إيقاع تتابعي، ما يجعل هذه السيرة التي ترتكز على الذات تتجاوزها إلى الشخصية الجمعية في جذورها التاريخية، إنها "سيرة ناقصة" لأمة برمتها، البابا الذي يتنفسه الشعراء يتحول هنا إلى رمز للاستلاب، وألفونسو الثامن إحالة إلى المجد التليد والفردوس المفقود، وكارافاخيو إلى قتل الفن والرقي والذائقة، والطاغية إلى الصنمية السياسية وتأبيد الاستبداد بمباركة الثقافة (سيرة الطاغية ...) وزكرياء يتحول هنا إلى رمز لتحقق المستحيل، ويحيى إلى استمرار الحياة رغم كل شيء، والمجذوب إلى الشاعر الذي يحمل رسالة (الحكمة) ويبقى غريبا لا يفهمه أحد..
3- نغمية الدفقة الشعورية
تتحكم الدفقة الشعورية في النفس الشعري للقصيدة، ويظهر هذا النفس في امتداد وتقلص السطر الشعري والمقاطع ومختلف أجزاء النص ككل، هذا أمر معروف في القصيدة العربية الحداثية منذ الثورة الشعرية في النصف الأول من القرن الماضي، لكن ما يجدر بنا رصده هنا هو درجة الانفعال بعيدا عن اختزالية أحادية الجانب في الحركات والسكنات، وبعيدا عن تحكم معيارية الوزن في تحديد السطر والمقطع.
نميز -وفق مفهومنا لموسيقى الشعر المتضمن للنغم والإيقاع معا واتخاذهما ألوانا وأشكالا مختلفة- في درجة الانفعال التي نسميها بنغمية الدفقة الشعورية، بين ثلاث درجات: درجة هادئة منخفضة ودرجة متوسطة ودرجة عالية حادة، وتمثل تجريبا شعريا موغلا في جمالية الموسيقى في القصيدة العربية، أطلقت العنان لحرية الانسياب الشعوري، فتراه يتهادى ويخبو تارة وأخرى يميل إلى الاعتدال وطورا يتصاعد ويتوهج بشدة.
تعطي القصيدة هذا الإحساس النغمي الذي تشبع به الشاعر عندما يكون المتلقي على أهبة لتلقفه وتذوقه، وتكون القصيدة ثرية به، أما عندما تضحل مشاعر النص تحت وقع حوافر الحركة والساكن حتى ليصبح الوزن هاجسا وقيدا يكبح الانفعال والدفق الشعوري، فإننا نعدم وجود هذا المستوى النغمي في القصيدة.
حين نتلقى شعر شاعر من طراز الراحل عبد السلام بوحجر انطلاقا من مفهومنا لموسيقى الشعر النابعة من الوجدان، يراودنا الإحساس بهذه التونالية التي تشبع بها منجزه الشعري الباذخ برمته، منذ ديوانه الأول "أجراس الأمل" إلى ديوانه الأخير "الغناء على مقام الهاء" ولا نجد أثرا لهذه التونالية في كثير من نصوص آخرين، وقد وقعت تحت اليد الطولى لسلطة الوزن وجفاف المعنى.
في قصيدته "في أسطورة هيلين" تونالية وجدانية أشبه ما تكون بنشيد ذي طابع غنائي ملحمي كل مقطع من مقاطعه الأربعة عشر - ولها بناء واحد- يحمل تنقلا نغميا يعلو فيه الانفعال وينخفض، فيتخذ المقطع والقصيدة ككل منحى دائريا يبدأ وينتهي هادئا ساكنا، بدء من عبارة "في أثينا" وانتهاء بالكلمة الأخيرة في كل مقطع وهي بنفس الروي والقافية، وفي وسط المقطع تندفع الدفقة الشعورية وتتخذ نغمية قوية حادة وعالية، في المقطع الثالث ننشد مع الشاعر:
"في أثينا
يَخرجُ الماضي مِنَ الماضي
كأنسام البَخورْ
أينما تذهبْ تجدْ أسطورهْ
تنبتُ من بين الصخورْ
وكتاباتٍ على الجُدرانِ
تحكي قَصصَ الحُبِّ
وأحلامَ الجنود الأولينا" ص16
يتدفق الشعور قويا وسط المقطع مع أسلوب الشرط "أينما تذهب...."، ثم يعود الانفعال إلى هدوئه الأول مع "أحلام الجنود الأولينا".
وفي البناء الكلي للقصيدة ميل إلى الهدوء واللين في المقاطع الأولى، بينما تتوهج شحنات الانفعال في الوسط وفي المقطعين الأخيرين الثالث عشر والرابع عشر بخاصة، يستلهم الشاعر أسطورة هيلين الفاتنة الاسبرطية التي جر جمالها الوبال على طروادة، لكن القصيدة لا تستعرض هيلين، بل روح الإبداع لدى الشاعر تصنع من هذه الأسطورة كونا شعريا خاصا به، حيث العالم كله يهيم بهذه الفاتنة، "حتى الميتين استيقظوا"، وحيث العشق دينامو الحياة ومحرك الانفعال في القصيدة، ووهج الدفقة الشعورية، هيلين عاشقة ضائعة تبحث عن حبيبها المقصي بعيدا عنها، والحبيب عاشق ضائع، والأنا محور النص الشعري عاشق ضائع بدوره، يحلم أن يبقى نائما في حضنها سنينا".
يبلغ الانفعال أوجه مع المقطع الحادي عشر، حيث يطول السطر الشعري ويطول المقطع وتتدافع الانفعالات وسط وصف هيلين، وتزدحم المفردة الشعرية والانزياحات، في أجواء النشيد كأن القصيدة معارضة لجزء من الإلياذة، فنتلقى مع صعود الانفعال قشعريرة جراء ارتفاع النغم، فيخلب لبنا -كما "تخلب هيلين لب الناظرين الحائرينا"- بدرر اللغة الشعرية الأخاذة، لكنه لحن جنائزي : "ترتخي مثل عروس البحر في كرسيها"، "الوحشة"، "الذهول"، "إنها تحمل في أعماقها غابة أجراس"، "أوتار بكاء"، الصدر الرطيب"، فتدثر بلهيبي"، "فجر هوميروس" ...
"هي لا تَهوى الظُّنونْ
لا تريدُ البحرَأنْ يُفرَغ َفي تلكَ العيونْ
لا تريدُ الشمسَ أنْ تُشرقَ
مِنْ بينِ ذراعيها .. ولكنْ
هي تهوى أن تكونْ..
مِثلما الناسُ جميعا يَعْشَقونْ" ص23
ينهي روي النون الممدودة بالألف (...نا) المتوالية التعبيرية في المقاطع الشعرية هنا، وهي قصيرة كلها باستثناء المقطعين الحادي عشر والثالث عشر، فهما ثريا الانفعال بطولهما الكمي وبازدحام الدفقات الشعورية بهما، ولا يريد الشاعر قطع هذا التحليق والارتفاع النغمي حتى يبلغ ذروته، فلم يقسم المقطعين ليختم بذلك الروي، ولم يهتم لجعل المقاطع متقايسة، فلم يستعمل هذا الروي (..نا) وسط الانفعال النغمي، لأنه هنا مرتبط بالنزول نحو قرار النغمة الشعورية، ولو كان همه تكرار الروي للحفاظ على جرسه فقط لكان أفسد هذه الموسيقى الصاعدة من وجدان الذات الشاعرة، ولكنه لم يفعل لوعيه أن الروي (...نا) لا بد أن يأتي عفويا لتحقيق هذه الوظيفة التعبيرية؛ أي الرجوع إلى الانفعال الهاديء عندما يحين وقته، يرتفع اللحن في المقطع الأخير " وهو لحن جنائزي إثر انتحار هلين في النهر.
نتلقى التدرج في الانفعال أو الاستقرار في درجة من درجاته قبل أن يجتاحنا اللج العاتي في المقاطع الأولى من قصيدة "سيرة ناقصة" لعبد الإله مهداد، مع نغمة القرار المتكررة في بداية المتوالية الأولى من خلال مفردة "حين":
"حينَ اتحَدَ البُرْجُ بأنْجُمِهِ،
واتَّسَعَتْ لِلمَيِّتِ رُؤْيَتُهُ..."ص 7
وبعد تكرار هذه المتوالية بصيغ تعبيرية مختلفة، يرتفع التعبير النغمي قليلا في المتوالية الثانية نحو الدرجة المتوسطة المعتدلة، حيث تزدحم السطور الشعرية في المقطع الذي يستهل بنغمة تكسر الهدوء فترتفع قليلا، "آنئذ":
"آنئذ آنَ لِهذي الأَرْضِ
بأنْ تُسْرِعَ أكثرَ في دَوْرتِها
كيْ تَبلغَ ذِرْوَةَ شَهْوَتِها
فأُصيبَ الشُّعرا:
بالغثيانِ ص9
ليست هذه سرعة دوران الأرض، بل هي ازدحام وتدافع المشاعر الدفينة في أعماق النص الشعري، واتخاذها منحى دائريا متصاعدا، ويعقب هذا الدوران سقوط مدو من جراء الدوار والدوخة، سقوط يحتمل دلالات المعاناة والنزول والميلاد معا، معاناة بقدر ما يرى فيها الموت يبصر فيها الحب من/ على ضلع امرأة هي رحم الوجود والخصب، فتؤول المعاناة إلى ميلاد وبداية حياة.
سيعلو الانفعال إلى الدرجة الثالثة، فيتدفق التعبير حادا، تزدحم في صدر النص المفردات الشعرية فتتفجر في صورة شلال هادر؛ إذ يزداد طول السطر الشعري حتى يصير فقرة لا تتوقف، تتدافع في عروقها المفردة والجمل طويلة النفس، حتى لا يبقى في صدر النص شحنة تحتاج لكلام في العمود الثاني حيث البياض مفتوحا للتأويل من دون تدخل الشاعر فيه، فيجعله فارغا في هذا المقطع، خلافا لبقية أجزاء النص، حيث عمود البياض المتوافق مع عمود السواد حقل لاستثارة التأويل، يقول في هذا المقطع:
"انغلقت كل الأبواب...
فحملت الألوان الخمسة، لم تسعفك الخيل ولا المقهى، وكرعت الكأس، وقلت اليوم سأتبع موتي، للخلف مضيت، تنز تفاصيل قصيدتك المنسية منك، وتحتال على المعنى لتغور بمعطف وحدتك... الجسد الذابل، لا خولة أو ليلى تجمع من جرحه تينا، لا عائشة الحلم، ولا سورا أخضر تتسوره نحو الله، اليوم ستحرق ما سطره القلب، وأرخه المنفى..." ص23
وإذا كانت أرض قصيدة "سيرة ناقصة" لعبد الإله مهداد تدور باعتبارها رمزا للوجود، يستشعر دوارها الشعراء حد الغثيان، فإن الأرض في قصيدة "شهيق الأرض" لجمال أزراغيد حقيقية، استعار لزلزالها الحقيقي ألوانا من المجاز العجيب كي يسمح للشعور بالألم والفقد والأسى والموت والخراب بالتداعي كما تداعت الجدران عند الشهيق في مدينة "الحسيمة ذات زلزال 2004".
هذه التونالية الشعرية يحفل بها خط جمال أزراغيد الفني منذ بدأ الكتابة الشعرية في ثمانينيات القرن الماضي، متوسلا بلغة شعرية مفتونة برونق الانزياح، وفي "غنج المجاز" تتسيد موسيقى الوجدان من خلال عفوية الانفعال وسلاسة الدفقة الشعورية، قصيدة "شهيق الأرض" ممتح ثر لنغمية شعرية تتوزع إلى ثلاث درجات: درجة هادئة ساكنة في مقطعين: أول بعنوان "سكون" وسادس أخير بعنوان "أمل"، ودرجة حادة عالية متوترة في ثلاثة مقاطع: ثان بعنوان "شهيق" وثالث موسوم ب "نواح" ورابع "رحيل" ثم درجة متوسطة معتدلة الانفعال ذات تأمل وجودي حزين في مقطع واحد خامس بعنوان "تساؤل".
يثوي في متوالية الهدوء والسكون في المقطع الأول والسادس حدان متقابلان: هدوء ما قبل الفاجعة وهدوء ما بعدها، ولكليهما نغمته التعبيرية الواقعة في الفرق بين الهدوء والعودة إلى الهدوء بعد الخراب:
"الليلُ رخيم ..
ألفى نَفسهُ مُتسللاً بينَ الخُزامى " ص28
وتزدحم المجازات هنا في سير بطيء خافت، يغلب عليه التأمل :
"رُبَّما
الجُغرافيا تُعدلُ حَواشيها
على خاصِرَةِ الماء.
فمنْ سَيُضيءُ لغةَ المَدينة؟"ص34
وفي متوالية "الشهيق"، فإن الانفعال والتوتر والهلع في أشده ونغمته عالية حادة عنيفة قاسية:
"هديرٌ
يُسرعُ السيرَ لبدايةِ المشهَد
أو نِهايةِ المكان
يُكسِرُ هَزيعَ الليل جِهتين:
يُمنى للهربِ المُتعرجِ في تخومِ السَّواد
كالخَمرةِ الرائجةِ
على سَطح الزُّجاح
بحثا
عنْ لقطةِ سلام..
رَمشةِ ضِياء..
رشفةِ حياة..
يُسرى للهلعِ المُتقوسِ في جيوبِ الفُؤاد" ص30
أما في متوالية "تساؤل" وهي المعتدلة المتوسطة الخارجة للتو من رعب الدمار فالنغمة فيها ليست ساكنة ولا عالية بل بين بين، موسيقاها تعزف وتر الوجود والتأمل فيه على وقع السؤال:
"أتُرى ضاقتِ الأرضُ بنا
أمْ أنَّ حفنةَ الارتِجاج
هَدَّتْ حِكمةَ الليل؟" ص33
4- عود على بدء
الموسيقى نظام تأتلف به الظاهرة الشعرية، وهذا النظام إيقاع يأتي في صيغة تتابع أو توال أوتكرار، وليس الوزن (توالي الحركات والسكنات) سوى لون واحد من ألوانه التي لا حصر لها؛ كالرمز والحلم والأسطورة والانزياح والصور الأسلوبية، ولعبة السواد والبياض...
وموسيقى الشعر أيضا نغم، وهو ارتفاع الأصوات وانخفاضها كتعبير عن درجة الانفعال الشعري الذي يظهر في الدفقات الشعورية التي تحدد شكل وبناء القصيدة وتعطيها نغمية تتراوح بين السكون/ الجهارة/ الهدوء من جهة والاعتدال والتوسط من جهة ثانية والعلو/ الشدة/ الحدة من جهة ثالثة، علاوة على ذلك تظهر نغمية الدفقة الشعورية في جرس الأصوات المتدافعة في النفس الشعري.
هامش
----------------------------