الهاوية



الهاوية

قصة قصيرة

قرار لا آخر له.. دهليز طويل كشعر "لونجا". أعياني السير في اتجاه واحد. وكدت أن أفكر في التوقف. تنفلت الصور والأصوات مني رويدا رويدا. خُيِّل إليَّ أنني أعرف من أين جئت، وإلى أين أمضي؟ ربما كان ذلك واضحا في ذهني، أو هو كذلك للتو. إنني مشوش ! من يدري؟ قد يكون أوان الخرف قد أزف.. حاولت أن أسترجع التاريخ. لكن ضحكا هستيريا تملكني، من أين لي ذلك، وأنا أحفظه ولا أستوعبه!؟ ربما تكون بلادة فيَّ من زمن الانحطاط، حين أحرق الصور، وأخرس الأصوات بدخيلتي، وأطمس كل تذكر فيَّ، أي تاريخ يبقى لي؟ الدرب طويل، والمارة مفتونون باللهاث خلف السراب المستفز من خلال الأضواء المنعكسة على الإسفلت. يريدون الوصول ربما، لكن إلى أين؟ أليسوا تائهين مثلي؟ بعضهم متكاسل، ينظر إلى السماء في بلاهة، وآخرون يحدقون في المؤخرات النافرة لأجساد تريد أن تبرز أنوثتها بالكعب العالي، والخصر الضامر، وشقة الصدر الحارقة، بالمساحيق والأصباغ، وافترار الثغر بوافر تصنع... وأخريات مبهورات بالعضلات المفتولة، والصدور العارية المعشوشبة، والذقون الحليقة أو المهملة ليوم واحد أو يومين على الأكثر، والرؤوس الحليقة، والشعر المُسَرَّح وفق آخر تقليعة، تبحث في النظرات الشبقية للذكور عن رجولة تجدها ضحلة أو لا تجدها البتة، وما إن نسهو حتى نرش رذاذ لعابنا على اللوحات بتلمظ، فتتلطخ الأصباغ، وتضيع الملامح، وتختفي الأنوثة والذكورة معا. ربما سأعدم هذه الذاكرة بعد حين، وقد أتذكر في لحظة، كل شيء، فأبكي على الطلل، وأفخر بأمجاد الأجداد.. تبًّا لي! أين أمضي؟ والدرب لا ينتهي.. ماذا لو انعطفت يمينا أو شمالا في شارع آخر؟ ضاعت مني بوصلتي، ولا علم لي عن نقطة الوصول.

حائرا مشيت.. ثقيل الخطى، يطرق ذهني ألف سؤال..  لكني لا أقوى على التفكير.. كان ثمة شيء غريب يحصل توا.. رأيت الناس جميعهم يسيرون في نفس اتجاهي، احتشد الشارع، وخلا من أية رَكوب، لم تكن هناك أصوات مرتفعة، ولا شعارات، ولا هتافات، لكنني لم أشعر في الآن نفسه بأية سكينة، أحسست بإيقاع السير الجنائزي تُزادُ وتيرته شيئا فشيئا، ثم ساد الهرج، واختلطت الأصوات، نظرت يمينا وشمالا، كان الناس يخلعون نعالهم وخفافهم وأحذيتهم، ويلقون بها على الرصيف. يواصلون السير حفاة حائرين، خلعت حذائي العسكري وطوحت به بعيدا عن الزحام.

قال أحدهم لمرافقه بمحاذاتي:

- الحَجّاج .. عظيم !

سرنا في موكب هائل، اشتد حر المساء، في غمرة التدافع وآلاف الأنفاس، شعرت بالعطش.. وخُيِّل إليَّ أن المسير برمته في قبضة الرغبة العارمة إلى الارتواء.

قال آخر خلفي:

- لن ترتوي هذه الأرض إلا بالدماء !

تصبب مني عرق غزير ساخن، خفق قلبي كطبل مترهل.. هتفت في دخيلتي: "بالروح.. بالدم..نفديك يا حجّاج !"، ثم هجست : "لماذا نميل إلى الخراب؟".

كان ثمة أمر غريب يحصل حالا، هرول الموكب في منحدر الشارع الطويل، وقد بدا أننا بلغنا منتهاه، اشتد الهلع بالجموع المتدافعة.. وعلا صوت التكبير والصراخ ثم العويل.. كنا ننحدر، نترنح بفعل الدوار، نتكوم، نتدحرج ثم نهوي في قرار لا آخر له.

عبد القهار الحجاري 

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال