برج الحمار

 

برج الحمار 

 


قصة قصيرة

أرتع في كومة عشب طري لذيذ، جالسا القرفصاء. أزدرده بشهية منقطة النظير. لا شيء ألذ وأجدى نفعا للبدن من هذا النبات. العاشبون مثلي أصحاء، طيبون وأكثر وداعة.. بعكس أكلة اللحوم؛ إنهم أقل إنسانية، حتى الإنسان نفسه!مفترسون ومتوحشون.. أستمتع بهذه الأكلة ذات المذاق الغامر بالنشوة، تحت شمس ضحى ربيعية مبتهجة. أنظر خلف السور الدائر حولي من خلال الفراغات المتروكة بين التدريجات المصطفة على حافته، كل شيء جميل حولي؛ المساحة الشاسعة في الأسفل، الممتدة تحت بصري بخضرة حشائشها ونضارة أزهارها. كأنها لوحة زيتية ساحرة. النسيم محمل بعبق الأزهار. يرش الأجواء بعطر أخاذ. وهباته تحنو علي بلمسات لطيفة. هذا الصباح كله أنغام تهدهد القلب؛ تآلفات من زقزقات العصافير وهمس الطبيعة. يالها من مسرة تغمرني!! ولم أكد أستشعر بعضا من السعادة، حتى سمعت وقع خطى ثقيلة في درجات السلم. «من يصعد يا ربي؟!»...«ألا يتركوني لحظة في حالي؟» قلت في نفسي التي بدأ صفوها يتكدر. لكن ماذا حصل؟ وجدتني فجأة في الزريبة. في حلكة الليل البهيم. والخطى الثقيلة ما فتئت تدك الأرض. وتكسر السكينة. وروائح الروث الكريهة تخنق الأجواء. كانت خطى سجاني الذي يستغلني لقاء البرسيم والنوم في مكان عفن ويمعن في جلدي بتلذذ. ويسمعني من الشتائم ما يجرح ويؤلم. ولا يفتأ يردد أن لحم أكتافي من خيره هو. كما لو كنت أعيش عالة عليه؛ آكل وأشرب وأنام. وأستمتع بالحياة على حساب راحته هو. والأدهى من هذا كله تبجحه بالإنسانية. آه.. لو أستطيع أن أتكلم. لقلت أشياء صادمة.. أنا الذي أعمل هنا أكثر من أي أحد. ولكن من يقدر كدي وتعبي؟ لماذا أوصم بالبلادة والغباء؟ألأنني أعمل بجد وإخلاص؟ أم لأنني لا أريد أن أدك أحدا بقوائمي وأعبر على جسمه؟ أم يرونني عاجزا لا حول لي ولا قوة؟ قالوا: «سيأتي الدجال في آخر الزمان راكبا حمارا يغلي قدره على ظهره»..غرقت في أفكاري البئيسة. ونسيت وقع الخطى الذي تلاشى خلف جدار الزريبة. وأغمضت عيني وفي أعماقي تمنيت لو أنني أنا الإنسان!!
فتحت عيني بصعوبة على ضوء الشمس المتسلل من نافذة قبالتي. كنت ممددا على حافة سرير على جنبي الأيسر. ألم حاد يشق رأسي.. استدرت مذعورا فجأة فأحسست بوجع في عنقي. مكان الأنثى بجانبي فارغ..ولو ثبت أن لي زوجة فمن المؤكد أنها خلعت نفسها مني. أو ربما أكون قد أذعنت لرغبتها فطلقتها. مع أن كثيرا من الحمير تزوجت نساء. وكنت أسمع مرارا جلادي يقول «الرجل يكون أسدا قبل الزواج. وحمارا عندما يدخل قفص الزوجية. ثم قردا عندما يصبح له أبناء يتنطط معهم».. تحسست أذني. وقفزت نحو المرآة لأرى شكلي. أهو حلم أم كابوس هذا الذي أنا فيه!؟ هل صرت إنسانا!؟ أم تراني في هذيان محموم؟ ماذا جرى لي؟ من أنا!؟ أو بالأصح ما هي ماهيتي؟ كل شيء مقلوب في الغرفة. نظرت من خلال نافذة.. كل شيء على الأرض مقلوب أيضا. الناس في أشكال هندسية غريبة في الهواء ورؤوسهم متدلية إلى الأسفل، كل شيء مقلوب رأسا على عقب؛ العمارات، السيارات، الأرض والسماء.. ربما أكون قد ازدردت نبتة خبيثة. أو أصابتني حمى. أو حدث لي خبل. هل أنا إنسان؟ أحقا أنا إنسان؟.ماذا أقول؟ ألست دائما إنسانا؟.. من قال إنني غير ذلك؟ والحال التي كنت عليها قبل قليل؟..البرج.. شمس الضحى المبتهجة، والحشائش اللذيذة. ثم المدود. وخطوات سيدي الذي لحم كتفي من خيره. وتمنياتي لو أصير إنسانا..ماذا يعني كل ذلك؟
رن هاتف في مكان ما..ربما في جيب سروال أو معطف. داخل دولاب. أو خارج الغرفة..لست أدري. هرعت أبحث عن مصدر اللحن الذي يبدو غريبا متنافر النغمات. منكسر الإيقاع..أين هو؟ سكت الهاتف، دون أن أتمكن من العثور عليه، ارتميت على أريكة قرب السرير، أمسكت على جبهتي، قلبي يدق. وآلام الرأس تعتصرني بقوة.. صدح لحن المحمول ثانية. ولم أخطئ مكانه حين اقتفيت أثر الصوت. وأمسكت به تحت السرير متربصا خائفا، كما لو كنت أقبض على ثعبان من رأسه.. فتحت الخط بارتباك. وجاءني من الطرف الآخر صوت ساخر مبحوح:
- آلو.. من أنت؟
- وأنت من أنت؟
ضحك الصوت المبحوح الخشن وأردف بحدة:
- أنت لا شك من برج
الحمار!.. وأقفل الخط توا. فصحت به:
- آلو.. يا وغد!
انسحبت من تحت السرير. وضعت المحمول جانبا، أنتظر المكالمة مرة أخرى سأسبه وألعنه وأصب عليه وابلا من الغضب لو تجرأ الآن واتصل ثانية.
سرت خارج الغرفة. دخلت الحمام. أطلقت رشاشة الماء على جسدي. أحسست بانتعاش.. من يكون هذا الوقح الذي يقول إنني من برج الحمار؟
بعد برهة، وجدتني أسير في شوارع بلا إسفلت، ولا ملامح.. كلها حفر وأتربة. أرصفتها برخام نفيس.. سيارات فارهة. تركبها كتل لحمية ضخمة.. تتحرك بخشونة تاركة وراءها عجاجا أغبر، تنفذ ذراته إلى أعماق الأجسام. شخوص بلهاء، فاغرة الأفواه. شعثاء اللحى والرؤوس.. تحمل دلاء محملة بأسماك غريبة. يقفز بعضها إلى الرصيف. يتزحلق عليه. أسماك حية تفر من أصحابها الذين يهرولون خلفها. أياد تمتد لتمسك بها وتعيدها إلى الدلاء. لتنتظر مصيرها. عيون شبقية محملقة بلا استحياء. أحس بمقلها ترقبني أنا الغريب عنها. النساء ذوات جمال وحشي. متحجبات الرؤوس. باديات الأرداف. تنداح الرغبة من نظراتهن المتحشمة. مشيتهن تشي بشهوانية ملتهبة. والرجال كثير منهم يتلفعون بجلابيب الوقار. يغضون أبصارهم. وبين الفينة والأخرى. يسترقون نظرات الإثم إلى الأجساد الغاوية.
توقفت أمام دكان لبيع البخور والخمور والعطور والتوابل، إذ أثار انتباهي رف من الكتب وسط أكياس الزنجبيل والقرفة والملح والفلفل الأسود والكمون.. سألت البائع عنها، فقال إنها كتب الأبراج. وطفق يفتش فيها. سحب منها كتابا متوسط الحجم، أوراقه صفراء، ومده إلي قائلا:
- هذا كتاب "برج الحمار"..لعلك تبحث عنه!
قلت وقد تملكتني قشعريرة باردة ورعشة:
- ومن قال.. قال أريد هذا الكتاب!؟ نظر إلى شزرا، وهم برده إلى مكانه فاستوقفته:
- معذرة.. من فضلك!
- نعـم!؟
- ناولني الكتاب من فضلك!
.. وجدتني جالسا في ركن مقهى مشحون برائحة الكيف، وقد علقت في مدخله يافطة أنيقة كتب عليها:«ممنوع تدخين المخدرات»!!فتحت الكتاب وقرأت في إحدى الصفحات:«برج الحمار لمن لا برج له لكل المواليد وما أفرد له برج لقدره وإنما لمنزلته الوضيعة ومرتبته الواطئة ولمعرفة ما يرتجى درؤه من مفسدة ناجمة عن اتخاذ صفة من صفاته ومختصر القول فيها الشقاء والقبح والبلادة وضعف الإحساس وقل اللهم لا تجعلنا من هذا البرج اللعين آمين» ووجدته ينقسم إلى عدة أبواب منها :«باب العمل للحمير وباب قبح الحمير وباب بلادة الحمير وباب ضعف الإحساس عند الحمير» وانتبهت بغتة على قهقهات كل من في المقهى يشيرون إلي وينظرون بعيون زائغة وجفون منتفخة يضربون كفا بكف ويتغامزون..
عدت مرة أخرى إلى السير في الشوارع المتربة بلا هدف. غبار متطاير..بشر مفتون بالهرولة في كل اتجاه. سيارات فارهة..رؤوس غفلة..رأيت حمارا مربوطا بقرب عمارة تربض بجانبها سيارة خرافية. اقتربت منه بادرني بابتسامة لطيفة، وأسرع لتبديد حيرتي:
- أنا لست منهم! مالكي ربطني هنا. ولا أدري أين ذهب. ثم أردف: أنت تائه، حائر. لا تعرف ماذا تريد. أليس كذلك!؟ أجبت مشدوها:
- بلى! .. وكيف عرفت؟
- هل قرأت برجك؟
ارتبكت.. فتشت عن الكتاب، تحت إبطي..لا أدري أين راح.. قلت دون تفكير:
- برجي جميل. وأطلق قهقهة مدوية .ثم علق ساخرا:
- لكنه ثقيل الفهم!؟
- كلام أشباح ولصوص!
- معك حق!
- شعارهم: العمل للحمير.. رأيت دمعتين تنزلان من عينيه الكبيرتين السوداوين ثم قال بحزن:
- هناك في الضفة الأخرى أصبحت رمزا.. وتنهد من أعماقه. ثم أردف، لو يستطيع الواحد منا أن يحرق!
- هل تريد أن تهاجر؟
- لا بل أريد أن أحرق أشياء كثيرة تؤلمني. صمت قليلا، ثم واصل بلهجة حازمة:
- لا بد أن نحرق الجبن والعجز يا أخي! هل تعرف ماذا سأفعل؟ سأتكلم! أخرستني الدهشة. وأنا أنصت إليه:- أنت أيضا بإمكانك الشيء الكثير!
-ستصدم كثيرين!
-مرة نطق حمار بائع متجول، فما كان من صاحبه إلا أن أمره بأن يساعده في النداء: بطيخ! هنا بطيخ!
ضحكنا ثم بكينا. ولم أدر ماذا حصل بعد ذلك.. كل ما أعرف الآن، أنني أخذت أستجمع قواي لمقاومة شيء ثقيل يكبس على صدري فيكاد يخنق أنفاسي. وأحاول أن أحرك أطرافي المشدودة إلى الأرض لأزيح ما يشبه عصابة تطبق بإحكام على عيني.

 #عبد_القهار_الحجاري

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال