أشواك في دماغ السيد سين

أشواك في دماغ السيد سين

قصة قصيرة 



كنت أهم للتو بفتح باب شقتي، عندما وجدت شخصا غريبا قبالتي، يتفحص وجهي ببلاهة، هل كان يطرق الباب؟ أم كان يحاول فتحه؟ أم أنه كان بداخل الشقة؟

 زم شفتيه الدقيقتين كسلك صدئ معقوف، تحت أنف ضخم وهو يثبت نظارته على عينيه بسبابته، أردت فتح هذه الأقفاص الكثيرة التي لا أعرف من أين جاءت وأنا لا أحبها، وتعز علي هذه الطيور المتلجلجة بها محدثة جلبة وزقزقة تشبه الصفير والاحتجاج، ولم أكره في حياتي مثل حبس الطيور في الأقفاص، حتى أنني لا أحيد عن الاعتقاد بأن هواة الطيور في الأقفاص سجانون وغير أسوياء.. 

حملق في بغل، أو هكذا أحسست، تحركت، استسمحني بدقيقة واحدة فقط للحديث معي، قال إنه من المكتب 713، كنت دائما أتحرج من أشياء كثيرة تحت نظرات العيون التي ترصد كل شيء هنا وقيل إنها تخترق الجدران، وللجدران آذان تسمعنا مذ وعينا الحياة ذلك الوعي الطفولي البريء، لكنني بدأت اليوم أتحدى وأتسلح بالكثير من اللامبالاة تجاه حارس السيارات وصاحب كشك الحمام العمومي، والبقال والمقهى المجاور، وكل هؤلاء شبوا هنا على المراقبة والإخبار حتى صاروا مخبرين تلقائيا...

لم أبد قبولا تجاه رغبته ولا رفضا، بقيت متسمرا في مكاني مشدوها، ذهني مشتت بين العصافير التي علي إطلاق سراحها، لأن حبستها تحز في نفسي وتمنع عني الطمأنينة والتفكير، وصديقتي التي ستزورني بعد ساعة، وهذا الوغد الذي فاجأني بنزوله في هذا الوقت بالذات علي كالقدر.

- دقيقة فقط من فضلك! 

رمى جسده الضامر على الأريكة، انزعجت الطيور الملونة الجميلة في الأقفاص، ازداد احتجاجها صراخا وصفيرا وهي توجه نظراتها نحوه بحقد دفين قديم ربما، جلست قبالته، نظر إلي في غموض من خلال زجاج نظارته المضببة، بدت عيناه كفوهتي بندقية ثنائية الطلقة مصوبة نحوي في كراهية مقيتة، تمتم قليلا كأنه يحدث نفسه، ثم رمى إلي اتهامه بأنني تجاوزت حدودي:

- أنت تفكر كثيرا يا سيد سين!

لاحظت أن العصافير لا تريد أن تهدأ، تنتفض في الأقفاص المعلقة في كل مكان من بهو الشقة، رد كأنه عرف بما أفكر مرة أخرى:

- دعك منها! إياك أن تفكر في فك حبستها، إنها تعودت القفص وانفصلت عن بيئتها، ستعرضها للموت إن حررتها، ستأكلها القطط.

هممت بأن أقول له إنه عدو العصافير والقطط والكلاب.. والنباتات والأشجار والبحار والأنهار.. عدو الإنسان وعدو الحياة.. فبدت لي في عينيه شرارات غضب كريه، قال بحدة إنه هو من وضع الأقفاص هنا، وأردف بعصبية:

- وهذه الطيور متعلقة بك يا سيد سين، وستبقى هنا واللا ما يعجبك حال!، وحتى إن أطلقت سراحها لن تبرح الشقة لأنها تريد ولا تستطيع.. 

قلت باندفاع ودهشة:

- آه فهمت.. فهمت الآن!

- على الله تكون فهمت!

نظر إلى ساعة هاتفه الباهر، لعله يتأكد من انقضاء الدقيقة التي طلب مني دون أن يقول لحد الآن ما جاء ليبلغني به، وأنا مشتاق لصديقتي التي تزورني من حين لآخر نتجاذب أطراف الحديث، نشرب سوية، نغني، نستمع للشيخ إمام، لفيفالدي وفصوله الأربعة، لقصائد العشرينيات من القرن الماضي بصوت عبد الوهاب أو بأصوات الشباب المجددين، نستمتع بكلاسيكيات الموسيقى المغربية ونرقص على العلاوي والشعبي، نضحك، نناقش هواجس العالم، أحيانا نسهر إلى وقت متأخر حين يختلط علينا السجال بالألفة وحديث الشجون ثم ننام، وطورا أرافقها في سيارتها فتجوب بي المدينة وهي تحاول أن تخرجني من النفق.. 

وصلت حياة فتحت لها الباب، بدت على وجهها دهشة ما، سألتني هامسة من يكون هذا الرجل؟ قلت إنه مخبر، دلفت نحو المكتبة وعدت إلى هذا المعتوه، نطق أخيرا وذكرني أن المكتب لاحظ أنني تجاوزت حدودي في التفكير، وأن كل شيء يسجل عندهم بالثانية وبالتفصيل الممل، قال إنني أفكر في أشياء خطيرة لا يحسن بي التفكير فيها أبدا، قلت مستغربا إنني لم أنشر أي شيء خطير، ضحك باستهانة وزعم أنهم لا يحاسبون أحدا اليوم على النشر بل على التفكير؛ إذ لا يمكن لأحد الآن أن ينشر ما يمس العالم، فنحن - يقول- نقطع عليه الطريق عندما يبدأ في التفكير.. وتابع بسخرية:

- وهل يصور لك خيالك الطامح أنك تستطيع أن تنشر ما لا يعجب النظام؟ 

واستخلص أن علي اختيار أمر من اثنين: إما التوقف عن تخطي الأسلاك الشائكة، أو أن أتحمل مسؤوليتي فيما يمكن أن يقع لي، نظرت إلى الساعة فهم للتو واقفا وانصرف مسرعا.

 فتحت كل النوافذ، استنشقت الهواء المنعش المندفع بفرح نحو الشقة، كسرت كل الأقفاص، خرجت الطيور مزغردة متدافعة في اتجاه النوافذ وحلقت عاليا في السماء، كانت تحييني وهي تطير بعيدا.

جاءت حياة تحمل تلك العلبة، رأيت عينيها الجميلتين فوق الكمامة التي ترتديها، كانت رؤيتي معتمة، لم أميز شيئا آخر غير جيب وزرتها البيضاء، يبرز نهدها الأيسر من خلاله وبالجيب رسم غريب يتوسطه العدد 713 مطرزا بحرير وردي، أخذت حياة إبرة من العلبة حقنتها لي في المصل، أحسست يابتسامتها صادقة خلف القناع الطبي، أو هكذا خيل إلي، أردت أن أفرك عيني، تبين لي أن أصابع يدي متصلة بخيوط من لدائن وحولي أجهزة وأشخاص لم أرهم من قبل. 

#عبد_القهار_الحجاري

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال