قراءة في قصة (الخلاص) لأشرف الخضري
--------
بقلم: عبد القهار الحجاري
--------
إن القصة التي لا تأخذ القارئ نحو متاهات الحيرة والدهشة والتساؤل، ولا تقحمه في إعادة بناء عالمها تكون قصة ناجزة كاملة بالمعنى الفج الذي يغتال فيها الإبداع، ويعفي المتلقي من التفكير الحر الذي هو مبتغى كل فن أصيل، ومن ثم لا تحيى القصة ولا تتجدد في الأذهان، لأنها تفتقر إلى القدرة على استثارة السؤال والتأويل.
تتوفق قصة (الخلاص) لأشرف الخضري في حفز تفكير القارئ لتجاوز المقصدية المباشرة نحو إنتاج الدلالات الثرية الممكنة باعتماد آليات التفكيك والتأويل. وتنهض هذه القصة على توظيف الرمز الديني للتفاحة المرتبط بفكرة "الخطيئة الأولى" وبفكرة "الخلاص".
عنوان القصة (الخلاص) يحيل إلى وضع مأزوم مفوت يعيش فيه الإنسان حالة لاإنسانية يعاني فيها من فقدان الكرامة، آملا في الخروج نحو آفاق سعيدة...
ويطالعنا مفتتح النص بحالة ترقب تحيلنا إلى المرجع الديني ورمزية التفاحة في ارتباطها ب "الخطيئة الأولى" وهو ترقب سقوط التفاحة الحمراء الناضجة المتدلية من غصن شجرة الجار الطيب، وستجد الشخصية مبررها لقطف التفاحة/ ارتكاب الخطيئة والمس بالمقدس في إنقاذها من السقوط في المكان المدنس بروث الأبقار المتراكم أسفل الشجرة.
ومن المفيد جدا هنا أن تستنير القراءة بمقولة المقدس والمدنس لمرسيا إلياد، ليس في المفتتح فقط بل في كل فقرات النص حيثما ذكرت التفاحة وذكر الروث.
وتظهر التفاحة في المختتم من جديد كخلاص من الانتحار الذي استُدرجت إليه شخصية النص الرئيسة، بسبب عقدة الذنب المتولدة لديها عن ارتكاب الخطيئة/ قطف وأكل التفاحة، فيصبح الخلاص من الموت هو الخلاص الحقيقي، بعد أن كانت الشخصية تتوق إلى الخلاص من عقدة الذنب جراء الخطيئة أي قطف تفاحة الجار الطيب.
العالم في قصة (الخلاص) لأشرف الخضري محجوز ضمن دوامة لا تنتهي، نقطة النهاية فيها تفضي بنا إلى البداية:
← ارتكاب الخطيئة والمساس بالمقدس وقطف تفاحة الجار كي لا تسقط في المدنس (الروث).
← الشعور بارتكاب الخطيئة والمعاناة من عقدة الذنب والغرق في المدنس (الروث)
← البحث عن الخلاص من عقدة الذنب.
← تجريب الخلاص بمحاولة الانتحار.
←ظهور التفاحة من جديد في الشجرة الهرمة كخلاص من الموت وليس من عقدة الذنب.
← ارتكاب الخطيئة من جديد بقطف التفاحة وأكلها ....
وهكذا يبقى الحدث حبيس هذه الدائرة التي لا تنتهي، فالإنسان المسكون بفكرة الخطيئة مهما عذبه ضميره لا يتورع عن ارتكاب الخطيئة من جديد كلما سنحت له سانحة، ويبقى توق الإنسان إلى الحياة السعيدة هو الخلاص الحقيقي من أي اندحار وفناء هروبا من الشعور بالذنب جراء ارتكابه تلك الخطيئة.
الحدث في قصة (الخلاص) ليس واحدا، بل متعدد، لكنه يتصف بخاصية القصر، غير ممتد ولا متشعب، ما يسمح بتجنيس النص في إطار جنس القصة القصيرة، ولا نكتفي بوضعها في القصة فقط كإطار تجنيسي عام، بل نشير إلى تلك الخاصية بعبارة "قصيرة"، وهكذا يكون تجنيس النص دقيقا، وقد لاحظنا انتشار عرف للكتابة القصصية في السنوات الأخيرة يقضي بالاكتفاء بعبارة "قصة" كتجنيس عام ينطبق على كل الأجناس الفرعية للسرد القصصي؛ من قصة قصيرة جدا أو أقصوصة وقصة قصيرة وقصة طويلة وهي أقرب إلى الرواية القصيرة، كأن هذا التجنيس الفضفاض يعفي القاص من التورط في إشكالات الحدود بين تلك الأجناس القصصية.
قطف التفاحة هو الخطيئة الثابتة التي لا تغتفر، والتفاحة هي المقدس الذي تجمع عليه القوانين الاجتماعية والثقافة السائدة والأعراف والتقاليد التي تستمد شرعيتها من المثل والمعتقدات والأديان، قطف التفاحة ألا يمثل محاولة لاختراق النسق وتغييره من أجل تحقيق السعادة ونبذ الشقاء؟ (التفاحة الحمراء الناضجة الوحيدة)، وقد تشير الشجرة إلى طبيعة الكون أو إلى الحياة نفسها، مآل الشجرة بعد أعوام أنها أصبحت فاقدة للحياة (صارت شجرة جرداء)، بعد قطف وقضم التفاحة يأتي الندم والعقاب، عـذاب الضمير والبحث عن الخلاص (رغم مرور السنوات كان جاري الطيب يسألني دائما عن تفاحته الضائعة....) وقد يكون هذا الجار الطيب ضمير الشخصية نفسه الذي راح يؤنبه ويشعره بالذنب حتى أنه حاول الانتحار، وعندها ظهور التفاحة من جديد والخلاص من الموت بدل الخلاص من عذاب الضمير (كانت تفاحة حمراء لامعة كدرة من الياقوت تضيء في نور القمر على غصن أخضر على الشجرة التي ماتت لسنين طويلة.... وجرى ريقي وتفتحت شهيتي لالتهام التفاحة التي أنقذتني في اللحظة الفارقة بين الموت والحياة.)
الزمان شاسع في القصة يصل إلى سنوات (مرت أعوام عديدة.... مرور السنوات.....)، لكن القاص يلتقط من ذلك الامتداد ما يفي بغرض سرد الحدث القصير، ولا يحفل بالتفاصيل والتشعبات التي ليست من طبيعة القصة القصيرة، ويظهر الزمان في قصة (الخلاص) واضحا مصرحا به بعبارات مثل: فعل الماضي (كان)...(كانت).. أو بعبارات مقتضبة مثل: (كل يوم) ... (كل صباح) .... (من الصباح حتى يعتم المساء)، و(ذات صباح مشمس)، و(في صباح بارد ماطر)، (بعدما)، (في أي لحظة)، (لساعات طويلة) أو بجمل مثل: (مرت أعوام عديدة)، (مرور السنوات) ...
يسند القاص أشرف الخضري وظيفة السرد إلى الشخصية الرئيسة في قصة (الخلاص) للتعبير عن الأنا الفردية التي ترمز إلى الذات العالمة المسكونة بقلق المستقبل، وتمثل تلك الذات الزمرة الاجتماعية للقاص بتعبير لوسيان غولدمان الحاملة لرؤية للعالم تطمح إلى الحرية والكرامة.. تتمحور حول هموم الإنسان وتعبر عن آلام وآمال هذه الزمرة وامتداداتها الشعبية وانتماءاتها السياسية، وتفصح عن تطلعها نحو غد أفضل وأجمل، في عالم تتغلغل فيه البداوة أكثر فأكثر وتضمحل فيه الحياة (الشجرة العتيقة بلغت محطتها الأخيرة كعمود خيمة للبدو المعسكرين على أطراف القرية، وفي ترحالهم الموسمي أخذوا قماش الخيمة وتركوها وحيدة جرداء) إنه عالم يغرق في القبح والفساد (كان الروث أكواما تحت الشجرة... شعرت أن التفاحة ستهوي وسط الروث)، يقوم الموقف السردي هنا على الرؤية مع، حيث السارد/ الشخصية الرئيسة أبرز قوى فاعلة في عالمه القصصي، وليس راويا متعاليا غائبا عارفا بأدق التفاصيل حتى دواخل الشخصيات، السارد في قصة (الخلاص) يعرف دخيلته وما يعتمل بها من آلام الندم جراء الخطيئة، يعرف ما يقض مضجع زمرته الاجتماعية من وعي شقي واغتراب وجودي، في مجتمع لا يزال يرزح في التأخر و البداوة مهما حاول اقتحام الحداثة، يتماهى السارد بالشخصية لينهض القص على ضمير المتكلم، ضمير الأنا الفردي والاجتماعي المقهور الذي يعي شقاءه ويلتمس الخلاص لزمرته ووطنه (مرت أسابيع وأنا أحاول أن أجد خلاصا لعذابي... كان خلاء المكان بعد ارتحال البدو يمنحني وقتا طويلا كل ليلة لتجربة الخلاص الأخير).
تتمحور مقصدية قصة (الخلاص) حول مس المقدس بالخطيئة فعقدة الذنب والسقوط في المدنس (لم أغفر لنفسي تلك الخطيئة، ندمي يكبر كل يوم كشجرة لبلاب تتعاظم حتى منعت ضوء الشمس من دخول غرفتي الواطئة.... تمسكت بالحياة الكريهة التي أحياها تحت وطأة عذابي المقيت.... ).
تفتح آلية التأويل آفاقا أخرى لقراءة هذا النص، ألا يعاني الإنسان في عوالم قصة (الخلاص) من الوصاية بتعبير كانط الذي يحيلنا في النص إلى واقع مأزوم مفوت غارق في البداوة والتأخر؟ تلك الوصاية التي يمارسها النسق على عقل الإنسان فيكبله ويسلبه كل إرادته في التفكير الحر والإبداع والنقد، وهي أسس النهوض المجتمعي والخروج من ظلمات العقل المحكوم بالوصاية إلى الأنوار، وما الأنوار سوى الخروج من الوصاية (كانط)، والعقل المكبل بعقدة الذنب لا يمكن أن يكون عقلا حرا ولا مبدعا، والنفس المريضة بالمركبات لا يمكن أن تكون نفسا سوية قادرة على الإنتاج وتحقيق النهضة، والشخصية الرئيسة في قصة (الخلاص) لا تستطيع أن تفكر إلا في الخطيئة والخلاص منها، ولا مجال لها كي تفكر في النهوض بالقرية والتصالح مع ضميره (الجار الطيب) والعمل معه في الإنتاج والبناء وتحقيق السعادة بالإبداع والعمل المثمر. إن الجار الطيب نفسه لا يزرع شجرة بل يخلع (شجرة التفاح الوحيدة...) (خلع جارنا الطيب شجرة التفاح بعدما شاخت) و (شجرة التفاح الجرداء المنصوبة كعمود خيمة...)، الجار هنا أيضا رمز للإنسان الذي لا يقاوم البداوة، ومجتمع البداوة لا يستطيع أن يتجاوز نمط عيشه البائد ولا قيمة فيه للإنسان، وللطفل الذي يمثل المستقبل: (أنتبه لأول مرة لذلك البئر العميق الذي حفره البدو لتخزين مياه المطر وغرق فيه طفل صغير وحدث هرج كبير ولم يستطع أحد أن ينقذه). من ينقذ المستقبل من الغرق؟ وأي مستقبل لمجتمع لا زال يؤمن بالعرافة: (عرافة البدو رأفت لحالي وهيئتي وعزلتي التي تتضخم يوما بعد يوم).
تمكنت قصة (الخلاص) لأشرف الخضري من طرح موضوعة الخطيئة والخلاص بالربط الذكي بين فكرتي المقدس والمدنس وبلغة سردية قوية، ونجحت أكثر في تناول موضوعة الوصاية التي يعاني منها الفرد فيكون مسلوب الإرادة عاجزا عن التفكير الحر، وموضوعة الفوات الذي يعاني منه مجتمع البداوة ويجعله عاجزا عن اللحاق بركب التقدم.