أسرار مقاتل غاب



قصة روايات ما بعد الرحيل الأولى: ..وقيل إنه أسر ولم يظهر عنه أي خبر.. الثانية: .. قيل إن لجنة سرية ترصدته واصطادته ليزج به في أقبية الظلام. ومن رووها تحدثوا في همس راجفين عن نشاطه واتهامه بالتآمر. الثالثة: ..قيل إنه ـ لأمر ما ـ هجر أهله وحيه إلى مكان مجهول الرواية الأولى بعد الألف: ..وقيل إنه كان قد جاء في عطلة طارئة دون سابق إعلام. فحدث شيء رهيب عندما دخل بيته فجأة.. ولم يكن يدري أن مجيئه سيودي بحياته.



 **************
 توقفت بنا السيارة المهترئة قرب "الدوار" . نزلتُ مع من حطوا رحالهم هنا في هذه القرية الصغيرة كثيرة الأشجار. وسرت أنوء بحقيبتي و أغراضي الأخرى.. في الدار الواقعة وسط حقل، بعيدا عن السكان، وقد كنت تدبرت أمر كرائها في العطلة الصيفية التي انصرم أمس آخر يوم منها، ألقيت بالحقيبة. و دخلت توا إلى الحمام فقد ألم بي مغص شديد في بطني لما كنت في السيارة ، ربما بسبب ياغورت حامض تناولته في الطريق . عندما خرجت فوجئت بشدة بامرأة طويلة تقف وسط الفناء و تنظر إليَّ بنظرات حادة و غريبة. تأملتها قليلا و حييتها دون أن ترد . بدت لي في هيئة جنية ساحرة الجمال كما في القصص الخيالية . كان شعرها أسود فاحما طويلا منسدلا على كتفيها . سمراء تشع أنوثة . لكنها مخيفة بنظراتها الحادة وشموخ قامتها و صمتها المريب . قالت بغتة بصلافة: ـ أنت من سكن هنا إذن؟ ـ أي نعم سيدتي! ـ اسمع..الزم حدودك يا ولدي.. تلك الغرفة المقفلة فيها الكثير من أغراضي التي أحب أن تبقى هنا . " ماذا يمكن أن يكون في هذه الغرفة التي أكد لي " موحا أقشار" بأن لا أقربها " . اندفع السؤال بداخلي .. أنت في قرية "المجاديب" وتحديدا عندي . هذا الملك كله لي . و اعتبر نفسك ضيفي..لا تهمني أجرة الكراء و لا أي شيء . المهم هو أن تدخل سوق رأسك . فهمت أنها صاحبة المنزل و الحقل التي كلمني عنها ذلك الرجل الذي يدعى "موحا أقشار" زوجها الذي تعاقدت معه على الكراء . فقلت : ـ أهلا وسهلا !! أنا طوع أمرك سيدتي. فقد فكرت أنه لا مناص من الليونة ، كي لا أجد نفسي في الخلاء. و من المؤكد أنني سأفهم بعد حين هذا العالم الغريب الذي حُكي لي عنه العجب . خرجت هذه المرأة ثم عادت و قالت لي بلهجة أقل حدة : - لن ينقصك خير هنا . سأبعث لك بالغذاء مع البنات و إذا احتجت لشيء ابعث توا لخالتك " الوازنة" - بارك الله فيك سيدتي!! و كنت على وشك أن أنطق اسمها لولا أنني هبتها . وتساءلت مرة أخرى" ماذا يخبئ لي الزمان في هذه البلاد السعيدة ؟ ". كنت مرهقا شيئا ما. و شعرت بحاجة إلى النوم . كان السرير الحديدي في الغرفة الطويلة التي تشبه حافلة مكسوا بالغبار نفضت جانبه بيدي فصعدت كتلة من العجاج . سعلت و ابتعدت نحو الفناء المفتوح على السماء. الغرفة المقفلة تبدو كمدخل مغلق محفوف بالهواجس . بابها الخشبي البئيس ذو شقوق طولية ، باهت الطلاء، حتى صار بنيا ماسخا، تحولت صباغته إلى قشور بارزة. كنت سأهم بالعودة إلى الغرفة لأستريح مهما يكن لأنني مرهق ، حين رأيت ما يشبه " الوازنة " لكنها أصغر وأجمل منها . تقف في مدخل الدار و في يديها طبق بدا لي أنه ربما يكون غذائي . ابتسمت لي فأحسست بصعقة داخلية سرت في أوصالي . قالت و هي تدخل الغرفة : ـ أنت تحتاج إلى قليل من الوقت لتتأقلم مع هذه الوحشة . لا تثق في كلام الناس . ليست الدار مسكونة إلا برجل شجاع وقوي هو أنت ـ ومن أدراك أنني شجاع و قوي؟ ـ لم يجرؤ أحد قط على الاقتراب من هذا المكان ثم أردفت مبتسمة : ـ أنا العالية ..اسمي العالية ـ تشرفتُ بك يا "عالية" ! ـ ستخرج بعد الغذاء إلى العمل؟ ـ العمل غدا.. لكن قد أخرج.. لماذا؟ ـ سأنظف لك البيت أنا وربيعة أختي ـ لا داعي لذلك.. ـ هذا أمر أمي " الوازنة".. و أمرها مطاع لا يرد ـ كما ترون أكلت ونمت قليلا . لكنني أفقت مذعورا.. رأيت خليطا من الخيالات و الصور الغريبة؛ عيون حمراء أفاعي .. بنات حسناوات ، قطط سوداء تموء بشراسة في الفناء .. و رجال ملثمون يتبادلون إطلاق النار.. أفقت وكان جسدي يتصبب عرقا . نزلت من على السرير و توجست أن تكون حية ما ترقد تحته. فانثنيت لألقي نظرة تحت السرير. بدا لي ما يشبه جرابا زيتي اللون . سحبته راجفا . كان مليئا بأوراق كثيرة .. وجدت صورا لعساكر، في واحدة منها يتعانقون ضاحكين ببزاتهم الزيتة . وفي أخرى وجه عسكري وسيم تبدو قسماته أكثر جدية . دفعني فضولي وتوجسي المتزايد إلى قراءة بضعة أوراق . قرأت في الورقة الأولى: "....نحن في الخندق . نقاتل . أمامنا النار و من خلفنا السراب . سننتصر حتما . ونرفع راية الوطن عالية في كل شبر نحرره . وأعود إليكم لنحتفل ونرقص ونغني . و أتفرغ لحقلنا و بناتنا . لا تخافي فالنصر حليفنا . سلمي على البنات و على أخي "موحا أقشار" أنا أعرف أنه قائم بكل الواجب معكم " وفي الثانية : " الحب يا وطني طردته الأرواح.. غاب كما المقاتل.. و هذا الهارب من نفسه هل يكون شجاعا ؟.. هل راح يبحث عن سر الفتى الوسيم، ذاك الذي ترك العقول حيارى ؟ أم ترى سحرته الحسناء. تاه في المفازة يتعقب خطو من دس في الجراب حروفا وبصيصا من أرق ، من ألق لصبح مشرق كابتسامة طفل" وفي الثالثة: " ذبحوني وسط الفناء . ما كنت أدري أن الخنجر ينسل من تحت الأرض ..من دمي الذي صار ماءً .. " لم أشأ أن أكمل . فقد شعرت بالذنب " كيف أسوغ لنفسي أن أطلع على أسرار الناس؟ " وعدت والتمست لنفسي العذر وقلت " هذا مقاتل يدافع عن شرف الوطن فأنا معني بأمره تماما مثل أي واحد يحس بانتمائه للبلاد " جاءت " العالية " وأختها " ربيعة" وكانت تشبهها كثيرا . فيما خرجت حائرا إلى أين سأذهب . وصلت إلى المقهى الوحيد البئيس على تلة تطل على الدوار. هناك شربت قهوة سوداء ذات طعم مر رغم كمية السكر الزائدة التي أضفت إليها . أحسست بحرج شديد من جراء عيون رواد المقهى التي أخذت تراقبني باعتباري غريبا عن" الدوار". دلف إليّ النادل وسألني بهمس خافت : - هل سكنت في حقل " موحا أقشار" زوج" الوازنة"؟ - أي نعم....و لم؟ - أنصحك .. لا تبق هناك! - لماذا ؟ - اللهم إني نصحت اللهم فاشهد ..!! قالها وابتعد .. أما أنا فلم أكترث به وانصرفت . في المساء وجدت الغرفة مرتبة و نظيفة و معبقة برائحة بخور خانق . فتحت النوافذ ليتجدد الهواء . و عندما كنت أستعد للنوم سمعت طرقا خفيفا على الباب . وجدت "موحا أقشار" يريدني أن أرافقه إلى بيته لأتناول معه العشاء . اعتذرت له . و ارتميت على السرير. بدا لي أنني نمت نوما عميقا و كأنني أصعد من بئر . أفقت على مواء قطط في الفناء يمزق السكينة المريبة في أرجاء الحقل . وربما تناهى إلى مسامعي أنين و صراخ . أنرت المصباح و انثنيت لأسحب الجراب . كنت أريد أن أستأنف الاطلاع على أوراقه، لكنني ذعرت عندما تبين لي أن أسفل السرير خال من أي شيء . وفكرت أن البنتين لما نظفتا الغرفة لا بد أنهما حملتاه من هنا. أخذت ورقة و قلما و بدأت أخط سطورا بلا معنى أتلهى بها . وعندما هدأ الليل وعادت السكينة جفاني النوم فبقيت يقضا متوجسا . هدني الأرق و الصداع وغلبني النوم أخيرا . وحين تسلل أول خيط من النور عبر زجاج الشباك وسمعت زقزقات العصافير و أصوات الفلاحين . لم أدر ماذا جرى لي بغتة . قمت ، حملت حقيبتي وخرجت مسرعا. ركبت أول حافلة أصادفها تتوجه نحو المدينة وتركت قرية " المجاديب" . و في الطريق كانت سنة النوم تأخذني بين الفينة و الأخرى . @abdelkahharElha

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال