الرقص على زمن الجراح

 الرقص على زمن الجراح 

قصة 

 

اللوحة للفنان امحمد رزوق (سامي)


كانت ترقص ببراعة وإحساس عال على "بحيرة البجع"... دعوتها لرقصة أخرى، فأصرت على زمن الجراح في كل إيقاع، عندما أطوق خصرها الضامر، تهنأ يدها الناعمة على كتفي، تنام الأخرى براحة يمناي، تتعانق عيوننا، نغيب معا عن المسرح ولا نحس بشيء خارج وجودنا، لا نظرات المتابعين ولا زعيق دولة الشارب المعقوف والغليون الهائج والقبعة السوداء التي يسترسل من تحتها شعر طويل يشوبه الكثير من البياض...

- ولا أروع يا سيدة!
ثم يردف بنبرة خبيثة :
- لا أدري ما سر هذا الاندماج والإتقان ... لدرجة الاستغراق وتجاوز وقت المشهد الأخير...
الألم يعتصرني من فرط النشوة أو ربما بسبب الدور الذي لا يليق بي كما يعتقد هذا المعتوه...
- أستغرب كيف لا تتقنين حركة القفلة سوى مع هذا الراقص الأبله !
وحده الراقص الأبله من يجعل البطلة في غاية الروعة على الخشبة، فتأتي كل الحركات مذهلة، خاصة حركة القفلة المسماة ب"حركة الموت" وأسميها أنا حركة الحياة، لم يسبق لها أن أدت هذه الرقصة الآتية من أعماق قارتنا الجميلة كما أدتها اليوم، وحين أتابع تدريباتها على الخشبة، أحس برقصها فجا بلا روح فوق جراحي كسنابك خيل همجية، يتمنى المعتوه لو أنها تتوفق أكثر مع أي راقص سواي، يشجعها، ثم لا يلبث أن ينقلب مجنونا؛ يصرخ ويدين أداءها لقفلة الرقصة... 
- لا أدري ما الذي يصيبك في هذه القفلة يا مدام !؟ أنت لا تتقنين حركة العناق إلا في حضن ذلك الأبله !
وعندما ننهي العمل، نخلو إلى العشق، فنرقص كما لم ير المعتوه الهائج الخبيث أبدا، نرقص على كل الصنوف؛ شرقي، غربي، ثقيل، خفيف، مصمودي، سربند، وركادة يا لها من رقصة الركادة ! وعلاوي.. ثم فالز، سامبا، رومبا وتانغو...
تمر ساعات النهار في لمح البصر، يتلقفنا المساء والشارع هادئ جميل، نقضي لحظات في مقهى بعيد عن العيون، أو نراقب الغروب في شاطئ مهجور... ترن الهواتف في الوهم أو في العلم، لا أدري.. أتمزق، لا أحب رنات الهواتف، ربما يكون قد أزف الرحيل.
قررت فجأة أنني لا أريد هذا الهامش الذي يضعني فيه قدري الأخرق، وأنا قبلته عن مضض، أو ربما أنا من وضعت نفسي فيه بإرادتي وبدافع وهم أحمق، المسرح أقنعة وتجريب وتغيير للأدوار، وأنا ممثل فاشل وراقص فاشل على الخشبة، لا أتقن شيئا خارج الشعور الحقيقي به، سيكون علي دائما أن أجلس هنا كمتفرج، أراقب رقصها وجراحي تنزف تحت أقدامهم، وعلي أن أتحمل في كل مرة لحظة ارتمائها في حضن راقص أو ممثل آخر، وعلي أن أتحمل قبح هذا القدر المعتوه، قبل أن تتاح لي فرصة أخرى... نحن نمثل، وهذا مسرح كبير، وعمر القصة قصير، وكل الشخوص وهمية، الزمان والمكان هلاميان، وكل شيء عبث في عبث، وأنا لا أستطيع... 
تبعتني إلى الشرفة، كنت آخذ نفسا عميقا من سيجارتي، أنفث الدخان في الهواء المثقل بنفس العبث وسموم المداخن في هذه المدينة الموبوءة...
- ما بك يا حبيبي؟
- سأترك الخشبة
- عدت إلى هذا الموضوع من جديد؟
- أنت تعرفين أنني فاشل على الخشبة
- أنت تعرف أنك فنان ... فلا تفكر بهذا أبدا !
لذت بالصمت ، ولم أفكر في أي شيء، كان قراري بلا رجعة.
عبد القهار الحجاري
abdelkahharElha@

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال