القصة : تأويل السواد وتوليد البياض

 القصة : تأويل السواد وتوليد البياض



عبد القهار الحجاري 

القصة سفر في عوالم مفارقة، فهي بمعنى ما مخاطرة ومغامرة في المجهول الذي لا ينكشف بالضرورة في قفلتها، وليست محض نقل للوقائع أو سرد للحدث، وصفة القصر في القصة القصيرة نابعة من قصر الحدث لا من كمية المكتوب على الورق.
يعني السفر بهذا المعنى الكثير من الاستمتاع ب"لذة النص" بتعبير رولان بارث، لكن أيضا الكثير من الدهشة والحيرة والقلق والاستشكال والتساؤل... وبهذا يصير النص القصصي إعادة صياغة للعالم، ليس من مهمته إعطاء إجابات ولا نهايات ناجزة، لأن القصة ليست سردا ناجزا؛ إذ في ناجزيتها موتها، وبهذا يحيى النص القصصي بعيدا عن الكاتب، فالقصة الناجحة تعلق بالذهن ولا تفارقه؛ لكونها تحمل في أتونها عناصر توالدها المستمر وهي تقرأ من لدن جمهور مختلف المشارب والمستويات قراءات متعددة ومتنوعة تؤول بها إلى حياة متجددة ومستمرة.
إن ما ينقص الإنسان دائما وفي العمق أن يفكر بحرية، وحفز الفكر على نفض العجز من مهمة الفن عامة والقصة تحديدا، القلق الوجودي والحيرة الفكرية والدهشة من آليات التفكير الحر لمقاومة "الوصاية وهي العجز عن التفكير" (كانط)، القصة التي لا تدفع القارئ للتفكير الحر سرعان ما تدخل في طي النسيان، لقد ولى ذلك المفهوم الساذج للقصة على أنها حكي يحمل مواعظ وحكما أو مواقف سياسية، فهذا يحدث في الخطاب المباشر في مجالات الدين والأخلاق والسياسة، والقاص شخص مستفز للعقل، يستثير الذاكرة، ويستنفر التفكير، ويغني الوجدان ويعزف على وتر الفضول ليس لمعرفة تطور الحدث فحسب بل وللغوص في مآل الفكرة سواء تعلقت ب"مقصدية النص" أو ب"دلالاته المتوالدة" (لحميداني)؛ إذ النص الإبداعي عامة لا يحمل "دلالة خالصة" (هانس روبيرت ياوس).
القصة هي تلك "الطفلة الخالدة" (بوزفور)، وخلودها متأت من دهشتها ونزقها وسؤالها المستفز البريء، من حيرتها وعفويتها وانطلاقاتها الحالمة، ومن صدقها العميق، والصدق الفني لا يعني سرد الوقائع حرفيا أو نقل الواقع نقلا ساذجا، بل هو قدرة القصة على صياغة العالم بمشاعر فنية راقية نابعة من الواقع، لكنها تتجاوزه وتعيد بناءه بلغة سردية مدهشة، يحكمها الوعي الثاقب حتى وإن كان هذا الوعي شقيا، والوعي الشقي إذا توسل بالصدق والفنيات صار ممتحا ثرا ومعينا لا ينضب من الدلالة.
المجتمع الذي لا يقرأ يصعب عليه تمثل القصة كإبداع، فتجد من يقرأ يخلط -غالبا- بين الكاتب والسارد، فالكاتب صانع الكون القصصي وضمنه السارد نفسه، وتنتهي صلة الكاتب بالقصة فور نشرها للقراء، بينما السارد وهو شخصية وهمية لا يفقد الصلة بدينامية النص، يحيى في قراءات المتلقي، هذا الخلط يظهر خاصة في (الرؤية مع) عندما يكون السارد واحدا من الشخصيات والسرد بضمير المتكلم، فيشكل الأمر على القارئ غير المتمكن حتى ليعتقد أن السارد هو الكاتب، فيصبح السرد بضمير المتكلم "شبهة" وإشارة بالبنان إلى الكاتب وإسقاطا على سيرته الذاتية، خاصة إذا كانت القصة جسورة تتخطى الطابوهات والخطوط الحمراء وتستفز التفكير، وتستعين بالعجيبي والفانتازي.
العجيبي ليس نزعة غرائبية تحتفي بكل ما هو مفارق وسوريالي، ولا هو مجرد تصوير كاريكاتيري مجاني للعالم، إنه تصور ورؤية للوجود وللعالم، تتوسل بفنيات قصصية عالية لبناء كون سردي آسر يحرر العقل من حواجز ومتاريس الفكر المتكلس، وآلية لهدم المسلمات والتمثلات العقيمة ونمطية الحياة الرتيبة وتفاهة التلقي السطحي.
القصة ليس هدفها السرد والوصف والحوار لذات هذه الأنماط الأسلوبية التي لا معنى لها وهي تسحب على النص من خارجه وتفرض عليه فرضا، ويأتي ابتذال القصة غالبا من حضور التفصيل والتصوير والتواصل ضدا على التوظيف التلقائي الذي يستدعيه تنامي الحدث وتطوره.
أخيرا وليس آخرا لا تصوغ القصة كونها بتسويد البياض فحسب، بل بتبييض كثير من السواد أيضا؛ بمعنى أن الشطب في التسويد هو ترك للفراغ الذي من نصيب المتلقي يملؤه بمعرفته وخبرته وتجاربه ومن مشاربه وشخصيته وتكوينه النفسي والعاطفي ومن تصوره للعالم، ولذلك لا تقول القصة كل شئ وتتفرد كخطاب أدبي إبداعي باستدراج المتلقي إلى المشاركة في بنائها عبر تأويل السواد وتوليد البياض.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال