هل أصبحنا كائنات بلهاء ؟







 في الزمن الرقمي تزداد تراجعا إنسانية الإنسان، نفقد المعنى شيئا فشيئا، تخبو حرارة وحميمية الأشياء وتضمحل صدقيتها.


 ما يزال هناك ما يشبه الاحتجاج والرفض، أو لنقل صدى لما كان غضبا عارما ومقاومة شرسة منظمة، يهتز لها الشارع ويضطرب لها المحيط والمتوسط، وتهيج لها الدماء، ولكنه مجرد صدى، سرعان ما يتلاشى ويندثر.


الاحتجاج حالة إيجابية تشير إلى إمكانية البناء، هو رفض يضع الأمل نصب عيونه، لكن مواجهة الاحتجاج بنظرية المؤامرة وبالتسفيه واعتباره نزوعا عدوانيا هدفه الهدم لا البناء هو أمر يدمر كل ميل إيجابي لدى الإنسان، وشيئا فشيئا نميل إلى التطبيع مع الواقع وتقبل الأمر الواقع واستبطان الرفض، ليعبر عن نفسه بشتى أنواع السلبية التي تفتح الأفق على كل صنوف الاحتمالات الكارثية.


حالة البلاهة وتشتت القدرات الانتباهية - خاصة لدى الناشئة - تحت سلطة المارد الرقمي والابتعاد عن الواقع والتشرنق في الافتراضي هي أعراض الاستيلاب بعد تلاشي صدى الرفض والاحتجاج ولنقل العتاب أيضا؛ عتاب الوطن أو المتنفذين فيه، ولا يغدو للعتاب مع الإمعان في تسفيهه بعد ذلك من معنى.


 فقدان المعنى هو هذا بالذات مدخل الكارثة المحدقة بالعالم، ومع حالة البلاهة نصبح مجرد متفرجين في فظاعات القرية الصغيرة، نبدي كل المشاعر النقيضة الزائفة؛ فنحن منكسرون في أعماقنا ونبدو في منتهى التماسك، حزانى ونظهر بسعادة فائقة، نضع أقنعة كاذبة جوفاء، نعيش الفوضى ونحرص على ترتيب الأشياء في الواجهة الزجاجية المطلة على الشارع البئيس بأضوائه النافرة ونباتاته الكئيبة وضحكات المارة المشروخة...


أحيانا نتوقف كبندول ساعة معطلة، نصير بلهاء في عالم أبله، نفقد القدرة على التفكير وبالأحرى أن نمارس التأمل، يتكلس كل شيء فينا، نضجر من كل شيء ومن لاشيء، نرغب في شيء ما لا نعرف كنهه بالتحديد ولا ماهيته حتى، نترك عاداتنا الجميلة، نهجر أغانينا ونستنكف عن النزهة وعن الأشياء اللصيقة بنا، قد نغرق في البلادة والخمول، أحيانا نصدم ونبقى مذهولين لمدة طويلة أمام تداعي الصور وتشابه بعض المواقف ومرور لقطات نعيشها الآن كأنها من حيوات سابقة في الزمن يبدو أننا عشناها أوهكذا يخيل إلينا...


 نحن أيضا نساهم في نشر الدعوة إلى البلاهة من قبيل "تعود أن تعيش وحيدا ! "، "أحب نفسك ولا شيء غير نفسك ! "، "تجاهل وعش حياتك! " " لاشيء يستحق ! "، " الخيانة أن تخونك صحتك ! " ... وهذه دعوة إلى السلبية والاستسلام والانزواء والنفاق ورفض الحب واعتناق التوحد والكراهية وبناء عالم زائف افتراضي وخيالي.


 أليس الإنسان كائنا اجتماعيا ؟ كيف إذن ستكون حياتنا في غمرة هذا الاستيلاب ؟ نحيى في عزلة تامة أفرادا وأحزابا ونحن وسط الحشود، نواظب على "التواصل الاجتماعي" في الافتراض، اللعنة ! كيف نحفر خنادق ونقيم متاريس مع الأحبة والناس وننزوي خلف الشاشات البئيسة ونسمي هذا تواصلا اجتماعيا ؟ إنها خدعة مارد الرأسمال والاقتصاد الرقمي وهو يحولنا إلى كائنات بلهاء.


بالبلاهة نساهم في دفع العالم نحو الهاوية بالقبول بدل الرفض بالانفعال بدل التفاعل، بالتطبيع مع الخيانة بدل المقاومة، والحال أن القبول في حد ذاته خيانة للوطن.


عندما يعجز الشارع ويخبو صدى الاحتجاج والرفض يفنى ذلك الشعور الداخلي بالجمال وهو الذي جعلنا نبصر القبح فنقاومه،  يموت شعورنا بالانكسار والاغتراب وفقدان الكرامة، الوباء يفقد الإنسان حواسه ووباء البلاهة في عالم اليوم يفقدنا القدرة على الشعور، إننا نفقد تدريجيا ذكاءاتنا لنتحول في الأخير - لا إلى عبيد - بل إلى أكثر من ذلك؛ إلى كائنات بلهاء فاقدة لإنسانيتها.

#عبد_القهار_الحجاري

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال