غاص الراعي وكلبه في نوم عميق بالكهف إلى حين.. قطيع الماعز انتشر في السفح. يعتلي الأحراش. يقضم أوراق الأغصان. يشرئب بأعناقه بين الفينة والأخرى، نحو الأفق البعيد البعيد، امتلأت البطون بلذيذ النبات، فاسترخت عشرات العنزات والتيوس والجديان تحت وارفات هبابة الأنسام. أسلمت نفسها لنومة هنية سرعان ما أنهاها صوت الكراز، يرغو محمحما، لما طال غياب الراعي وكلبه داخل الكهف. دلف الكراز ناحية الكهف حمحم من جديد ورغا بأعلى صوته عشرات المرات، لكنهما لا ينهضان.. ربما سيظلان نائمين إلى حين. نظر الكراز يمينا وشمالا ثم انطلق إلى صدر القطيع. تتبعه الجموع إلى قدم الجبل منحدرة في السفح الحاد. بدا الماء للكراز في الوادي. علت الأرجاء وقع الحوافر والرغاء. هذه الأليفة التي لا تهاب صعود الوعر تشعر الآن بالعطش لا محالة، بعد أكلة لذيذة من أوراق الأشجار القصيرة والنباتات الكثيفة للسفح. تريد أن تشرب ماء زلالا. يتقدم الكراز القطيع الذي يسير في أثره متطلعا نحو الماء. لا زال الحر لم يشتد، لكن شمس الضحى بدأت أشعتها تمعن في التلظي. يسير القطيع.. تتلاشى برك الماء الرقراق، وتظهر أخرى هناك بعيدا. يسير القطيع في الوطاء وسط السهوب تاركا في الرمال آثار حوافره وخلفه عجاجا أغبر. بدا لجموع العنزي فراغ الوادي من أي ماء. ليس فيه سوى الحصى والرمل وزواحف تمرق وتختفي بين الأحجار. ارتفع الرغاء،
أدرك القطيع خذلان الأفق والراعي وكلبه ووهم الرؤية. أما الكراز فقد حدس أن بإمكانه أن لا ينخدع ثانية. فقاد جموع الماعز نحو الكهف وهو لا يتوقف عن الرغاء. انخرط القطيع في العودة مستمرا في رغاء حاد كأنه قرر أن لا يكل قبل أن ينهض الراعي وكلبه على أصوات القطيع، قبل أفول الشمس وخروج الذئاب.
عبد القهار الحجاري