الهدام قصة قصيرة


أول نشر 




كتب المشرف على ركن في دائرة القصة بمجلة الطليعة الأدبية العراقية التي كانت تصدر عن دار الجاحظ ببغداد في عددها الحادي عشر لشهر تشرين الثاني/ نونبر لسنة 1981 وكان عمري آنذاك سبع عشرة سنة، كتب في تقديمه لقصة الهدام :
" ... تشرد عائلة من بيتها نتيجة فقرها وإثر سقوط الدار على ساكنيه، هذه الهموم العامة تتحول هنا في قصة "الهدام" مأساة شخصية، مشاعر صغير يذهب ليأتي بالخبز  لأهله، فيقال له بأن دارهم سقطت. صورة للإحساس بالغربة والألم النفسي، مشاعر صادقة وصور واقعية تجسم من خلال الكتابة الانفعال بقضية الإنسان، البحث عن الكرامة والبحث عن الخبز، وهو إحساس مليء بالوعي ...."
ونشرت قصة الهدام تحت هذا التعليق، بنفس العدد من مجلة الطليعة الأدبية.

"الهدام"

الحجاري عبد القهار 
المغرب

مشيت متهالكا، أجر رجلي الثقيلتين، وأحمل على كتفي قميصي الذي خلعته من شدة الحرارة، وكانت ثيابي مبللة بالعرق، كما لو كنت أفرغت علي الماء، كان راسي أشعث مملوءا بالغبار الذي علق به أثناء الجري وراء الكرة مع أبناء الحي.
الأزقة خالية توحي بالخوف، البيوت ساكنة لا حراك فيها، بين جدرانها الهرمة يقيل الكل، وقفت أتأمل النخيل الشامخة الرؤوس وأفكر في هذه السكينة التي تسود هذا الحي القديم، الرمل يكوي قدمي، والشمس تحرقني وتحرق الأطفال مثلي الذين يقذفون النخيل بالأحجار ليأكلوا البلح، هرولت نحو مقاعد حجرية لم تصلها حرارة الشمس وجلست لأرتاح من عناء اللعب، جلست كثيرا، وكان النسيم الضعيف يحمل من بعيد أصواتا مختلفة يعبث بها في تلك الأزقة الضيقة المظلمة، ويقذفها تارة من زقاق إلى آخر، وطورا يلوح بها فتصل مسامعي، وأنصت في اهتمام بالغ حتى أفهم ما وراء هذه الأصوات المنبعثة من معان، لكني لم أفهم شيئا منها، وقلبت صفحات التفكير في ذلك راميا بالاهتمام بتلك الأصوات، وحققت النظر في عمق أعماقي وسمعت صوتا قي داخلي يهمس معاني لم أفهمها، ثم لعنت الشيطان وأدخلت يدي المبللة بالعرق في جيبي كعادتي، وإذا بها تلمس شيئا مستديرا خشنا، إنه النقد القديم، تذكرت ما قالته لي أمي قبل ساعات وتخيلتها تؤكد علي في الأمر : " إياك أن تنسى الخبز وتذهب إلى العب!" لقد نسيت الخبز وذهبت للعب، لم أشأ المرور على بيتنا حتى لا يراني أحد من إخواني ويخبر أمي على ما أقدمت عليه، فسلكت زقاقا غير الزقاق الذي يمر على منزلنا قاصدا الفران لأجيء بخبزنا قائلا في نفسي " إن الدروب كثيرة، ولا داعي للمرور قرب بيتنا) ولما أتيت إلى الفران لم أجد به خبزنا، سألت صاحب الفران :
- أين خبزي يا عم إبراهيم ؟
- أخذه أخوك، الناس تغذوا جميعا إلا أنت تسأل عن الخبز!
 وحدقت في الأرض منكسا رأسي، وبعد قليل سمعته يقول :
- أين النقود ؟ إن أخاك لم يدفع لي ثمن الخبز.
أدخلت يدي في جيبي وأخرجت منه النقد القديم الخشن وتسلمه مني مهمهما :
- شكرا يارجل!
اتجهت بعد ذلك إلى المنزل خائفا عما إذا زجرتني أمي عن غيابي، لكني فكرت قليلا وقلت : إن أمي لن تقول شيئا، فجريت وكأنني أعلم أنها حقا لن تقول شيئا.
في الطريق، وبين الدروب الترابية التقيت بصديقي سمير راكبا دراجته ويضغط بقوة على الدواستين، فلما رآني احمر وجهه ووقف قبالتي متلعثما وأخرج هذه الكلمات المتقطعة : 
-عبدو سقطت داركم !
وركب دراجته وراح يضغط من جديد على الدواستين، على حين راحت تلك الكلمات المتقطعة تدوس قلبي وتمزقه، فلم أصدق سميرا، واصلت مشيتي السريعة إلى المنزل، الأزقة خالية إلا من حرارة الشمس وحبيب الحشرات وقلبي يدق أكثر من المعتاد، والتقيت بشاب آخر وسألته : 
- هل مررت بدار سقطت؟
- نعم سقطت داركم يا عبدو !
لا أحد يخبرك بالنتيجة أو يلفظ عبارات  رقيقة تخفف من خفقان القلب حين تلتقي وتسأل سوى من يفاجئك بالألفاظ الحادة .. تردد رنين كلما خطر ذلك الشاب في ذهني ورحت أردد قوله وعيناي تحدقان في عمقي (سقطت داركم يا عبدو)، تساءلت عن مصير أمي وإخوتي، واصلت سيري شاعرا بثقل في جسدي، ولما اقتربت من بيتنا وجدت حشدا من الناس واقفا ينظر المشهد، اجتزت ذلك مستطلعا، فرأيت ضباب الغبار يحجب عني المنزل الترابي العتيق، وبعد قليل ظهر لي الطوب المصنوع من التراب متراكما، لن يظهر لي أحد من إخوتي وسمعت أصواتا من حولي تقول : "لقد نجوا، لم يصبهم شيء، لم أحفل بهذا ورحت أفتش عن إخوتي وأمي، حتى وجدتهم أخيرا في غرفة مظلمة لم يصبها الهدم، ولم أتمالك نفسي إلا أن سحبهم واحدا واحدا، ولما تيقنت من سلامتهم استرجعت وجودي، وعلمت أن تلك الأصوات التي كنت أسمعها قبل أن أذهب إلى الفران هي أصوات أولئك الجيران التي ارتفعت عند الهدام، هدام جزء من ذلك البيت العتيق الذي كان يعلن سقوطه قبل أيام قلائل.       
     


إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال