ضحكات شريرة


قصة
عندما قادني السمسار إلى هنا، كنت أهم بالخروج من هذه المدينة، لكن الوباء في كل مكان، يئست من البحث بلا جدوى، قال لي إنني سأجاور مجذوبة شريفة، لا تقبل أحدا لحد الآن، منية لم تعترض علي حتى قبل أن تراني يؤكد لي السمسار، وافقت فورا، لا شيء يخيفني سوى ترك هذه المدينة قبل أن أصل إلى كل شيء عنها، البحث يحتاج إلى البقاء هنا لمدة، وأريد أن أنجز عملا متفردا فيه سبق وجدة.
  السارد يمر بأزمة عصيبة.. لا أستطيع أن أميز ما يخترق الجدار بيني وبين منية؛ هل هو ضحك أم نشيج أم إجهاش بكاء مر مشفوع بحرقة همس مخيف... أم هو كيمياء غريبة من كل ذلك.. لم أفكر إن كانت حاملة للوباء اللعين، في كل الأحوال الخطر داهم.. اضطر  السارد للسكن مع أختيه مؤقتا في البيت القديم الذي يدفع هو ثمن كرائه منذ ثلاثين عاما، قبل رحيل والديهم..
أسمع منية كأنها تشاجر امرأة معها لا أعرف متى دخلت... الأختان ترفضان وجود أخيهما السارد وابنته معهما، وهو مضطر لاحتلال غرفة وترك غرفة لهما، والغرفة الثالثة احتلها لابنته.. لم أفتح لمنية المجال، لكنها أشرعته هي على مصراعيه.. يتشارك السارد وابنته مع الأختين العدوتين المطبخ ودورة المياه والكهرباء وهواء البيت، لم أسكن هنا برغبتي، ولا السارد هناك فيما أعتقد، أختاه تطلقان ضحكات يتصاعد منها الشرر كدخان سيجارة رديئة..
 أردت منذ الوهلة الأولى أن أضع جدارا سميكا بيني وبين منية ونحن نتشارك هذه الشقة، لكنها اكتسحتني بجبروت معجز.، لا يوجد مأوى في هذه المدينة المتكلسة... صديق السارد حكى له عن امرأة تملكته.. أنا لم أجد غير هذه الغرفة البليدة في شقة بالطابق الرابع، من دون مصعد بعمارة قديمة.. أقسمت تلك المرأة له بأغلظ الإيمان أن تهلكه إن فكر في ترك المنزل الذي يتقاسمانه..
فتحت لنا باب الشقة نظرت إلي شزرا، ربما تستنكر قدومنا، لا أدري.. مازحها السمسار وهو يسألها عن الغذاء، قالت إن الطاجين على النار، ونطقت ترحب بنا بنبرة غير عفوية، ثرثرا قليلا عن الوباء، وقررا معا أنه بلاء من الله والله يحفظ عباده.. ألقيت نظرة على الغرفة، لها نافذة صغيرة تطل على حوش به نخلة، فكرت أن أغير طلاء الغرفة الأصفر الفاقع كما فعل السارد وهو يحتل السكن القديم رغم أنف أختيه الشريرتين، وهو من يدفع الإيجار منذ عقود، ربما كان السارد شريرا أيضا لا أدري، تساءلت سرا : أين الأخوة؟  تلك البقع متشابهة هنا وهناك عند السارد، والجدران تقشرت كثيرا في الأسفل بسبب الرطوبة.
لم يبد منها أي اعتراض، كما لم أجد أنها متحمسة لي، قسماتها الباردة لا تعبر تقريبا عن شيء، أو ربما تعبر عما يفوق فهمي..
هم السمسار بالانصراف، رافقته إلى الردهة خارج الشقة، نزلنا سلالم العمارة، حاول طمأنتي من جديد بأن منية امرأة زينة! وسيدة طيبة وشريفة، ولها كرامات، وأن مقامي معها سيكون سعيدا... لم أحفل بما يقول، لأنه سمسار، ولست مباليا الآن بشيء غير السكن، ابتسم بخبث وألمح إلي أنها صعبة بعض الشيء لكن ... :
- كما ترى حسناء .. جمالها يخطف ...
بدا لي الآن والعالم موبوء أنه يريد أن يعرف هل رأيتها أنثى أم امرأة أم مجذوبة آوي عندها، تبا للسماسرة، تركته ودخلت دكانا، اشتريت خبزا وزيتونا وجبنا وحليبا وعدت إلى غرفتي بالشقة.
سمعت عبر الجدار ضحكات ذكرتني بجارات السارد، لا أعرف لماذا لم يعجبني ذلك الضحك، كأنه خارج من أعماق شريرة، من غرفتها المجاورة تناهت إلي تلك الضحكات التي تشبه بكاء وهمسا مخيفا كأن منية تحدث أحدا معها في الغرفة، غفوت قليلا، وبدا لي أنني سمعت طرقا فظا، قفزت واقفا، كانت منية بالباب تدعوني للغذاء، أردت أن أعتذر، فاخترقني سيخ حارق محبط وهي تنظر في عيني، شعرت بجبروت في وقفتها وعينيها، امرأة ذات سيطرة روحية تشبه صاحبة السارد التي تعشقه حد الجنون، وتؤكد له أن لا مفر من الحب الذي هو قدرهما إلى آخر رمق، وكلما هم بفراقها أو همت وجدا بعضهما كل في حضن الآخر. خشيت في لحظة أن تكون مثلها، لم أنبس ببنت شفة، تبعتها مبعثرا، أمرتني بالجلوس، أزالت المغلقة عن الطاجين، رحبت بي بلهجة جافة، شكرتها، أمرتني بالأكل، بدأت آكل متوجسا، لم ألاحظ منذ الوهلة الأولى أنها تجمع يديها وتنظر إلي في صمت وريبة نظرات غريبة، من دون أن تأكل لقمة واحدة، انتابني خوف شديد، خشيت أن تكون منية مثل تلك المسكونة التي سيطرت لمدة على صديق السارد.. ضحكت ببلادة، وضعت قطعة الخبز التي كانت بيدي على الطاولة الواطئة، صديق السارد قال لي إن شعر رأسه تشوك، وسرت قشعريرة باردة في جسمه كله، لا أدري لماذا انفلتت مني تلك الضحكة البلهاء، ربما لأداري الخوف، قالت فجأة :
- الآن أنصت إلي جيدا!!
- ..... نعم سيدتي !
- منية صدت كثيرين عن هذا البيت، ولم تسمح لغيرك أن يسكن معها...
كنت لا أزال أهم بسؤالها عن شيء لا أذكره، فلم تعطني فرصة، إذ واصلت بحزم :
- دخول الحمام .... !؟ إياك أن تفكر ثانية فيما تفكر فيه الآن! وأطلقت تلك الضحكات الشريرة التي تشبه ضحكات أختي السارد، ثم أردفت تبتسم وحمرة خجل كست وجنتيها لم ألحظها من قبل :
- في الليل .. السرير لا يمكن أن يكون باردا .. ستدفع الثمن غاليا إن تسلل إليه برد... أمرتني بالوقوف ... عندما هممت بالانصراف إلى غرفتي صاحت بي :
- بقي شيء ... هنا، لا تفعل شيئا أبدا! عليك بدفع المصاريف فقط، تفرغ لعملك اتق شر البرد، والباقي علي أنا، هل فهمت!؟
الضحكات الشريرة تحولت إلى صراخ وشجار كأنه رعود، ميزت صوتين لا بد أن امرأة أخرى معها، لم أفهم شيئا، خفت أن يتحول الجدال إلى قتال، تسللت من الغرفة، وجدتها تتربص بي :
- إياك أن تتدخل فيما لا يعنيك!
- لن أتدخل ! أنا ذاهب ...
- لا تنس اتفاقنا ! ولا تنس الحجر الصحي وبدء الطواريء اليوم السادسة مساء،  لا تتأخر !
خمنت أن مذبحة ربما ستقع، في الحومة أحسست أن الأنظار مصوبة نحوي، هل تكون منية هي عاشقة السارد ؟ وأنا؟ من أنا؟ ومن يكون صديق السارد؟ ...
سألني أحدهم إن كنت أنا الساكن مع منية، أجبته أنني أنا... ضرب كفا بكف وانصرف وهو يطلق ضحكات شريرة.
عبد القهار الحجاري
#عطر_الموتى قصص

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال