قصة قصيرة
يذرف سلام حرقته في خيمة العدول، بسوق الخميس الأسبوعي والصباح الغائم نكدته عجاجة رمادية، بلور ناري يسقط على ذقنه، سلام لم يكبر، بقي قلبه طفلا، كان في صباه يتسلق صخور الوادي العميق والسفوح الشديدة، ليقطف لإخوته من الدوالي في تلك الأرض الوعرة عناقيد شهية، وكان أخوهم الأكبر عياد يأخذها منهم بالمكر والحيلة.
يفرغ عياد كؤوس الشاي التي بلا طعم ونعناعها بلا رائحة في براد صغير صدئ، يميل ولا يكاد يستقر على صينية ألمنيوم بالية، يصبه من جديد فيها وهو ينظر إلى العدلين ثم إلى السجل، حيث دون عقد المبايعة بخط مغربي أنيق وبصمغ بني باذخ، ووضع أمام سلام على طاولة صغيرة واطئة ليوقعه :
- لست مجبرا على هذا .. ادفع مصاريف العدول وهيا ننصرف ! أنت أخي، ولا أريدك أن تفعل ما يؤلمك ويحزنك !
تبين لسلام الآن أن عيادا أخاه ربما كان فعلا متعاونا مع موسيو ديبوا وعساكره وكان لا يزال يافعا، يذكر الآن كيف حذر كثيرون والده وكانت "تميمونت" أمه قد ماتت قبل ذلك بسنوات، وقيل إن عيادا آلمها كثيرا بتصرفاته الخرقاء وسمعته السيئة، قالوا إنه ولد متملق للمحتل، مقامر بحياته وبالدشر والقبيلة، وحذروه من المقاومين رجال عباس الذين يسيطرون على مرتفعات "أكنول" و"بورد" و"تيزي ن وسلي" ويمكنهم أن يصطادوه أينما وضع قدمه بسهولة، وقتئذ لم يصدق سلام ما راج عن أخيه.. همس كأنه يحدث نفسه :
- ليس هذا اتفاقنا.. اتفقنا أن أبيعك حقي من الوالدة، والعقد يقول من الوالدين معا رحمهما الله.. حقي كاملا بألف درهم؟! هل هذا اتفاقنا؟
انتفض عياد كديك رومي هائج، وهم واقفا يهدد بالانصراف :
- أنت الذي أردت أن تبيع حقك.. أنت من يريد لا أنا !
أمسك سلام برأسه قبل أن يمسك بالقلم.. وقع بمرارة، وخيل إليه أن رأس القلم صار مشرطا يجز أوصاله ويذبح وريده، فيما كان أخوه يرسم ابتسامة صفراء تشي بابتهاجه الباذخ، أدرك سلام الآن أن عيادا لا محالة هو المستفيد الأكبر من كل المصائب التي حلت به، منذ تعييه معلما في العرقوب، بدءً من المشاكل التي لا يدري إلى الآن كيف تهاوت على رأسه من سكان الدشر وآباء التلاميذ خاصة .. والإشاعات المغرضة التي لاحقته .. قالوا إن سلاما ابن الفقيه لا يدخل المسجد، وقالوا إنه صار شيوعيا، يحرض تلاميذه على التمرد، ويزرع في عقولهم الصغيرة البريئة أفكارا خطيرة مسمومة، أشاعوا أن غيابه عن العرقوب لسنوات " فيه إن" وعودته أيضا " فيها إن" .. وخمن بعضهم أشياء غريبة، قالوا إنه لا يريد الزواج، لأنه يعاشر جنية، يلتقيها في أغوار الوادي أو في كهوف الجبل.. أدرك أن عيادا أخاه الشقيق هو المستفيد الأول من قرار التنقيل الذي لحقه وسمي تأديبيا إلى مدرسة نائية بقمة جبل "أجدير"، وتوقيف راتبه الشهري إثر رفضه الالتحاق، وأزمته المادية جراء ذلك، واضطراره إلى الاقتراض، ريثما تعاد إليه حوالته، وعياد لا يقرضه سنتيما واحدا، سلام يقول في قرارة نفسه إنه لم يجد بدا من بيع نصيبه في الميراث لعياد..
لم يستطع سلام أن يتمالك نفسه، فسالت دموع حرى ساخنة على ذقنه، أراد أن يفكر في أشياء أخرى كثيرة، لكنه شعر أن فكره مشوش، أو ربما يكون معطلا، لا يريد أن يفكر في هذا المبلغ الزهيد كيف سيتدبره؟ ألف درهم هل يشتري بها حبلا يشنق به نفسه ؟ حقيقة واحدة لامعة في ذهنه الآن.. عياد سحقه بلا رحمة وهو الذي لم يمنحه غير الحب.. سلام لا زال قلبه مع ذلك طفلا، لا يمكنه أن يكره.. ومع ذلك لا ينسى أنه كَذَّب من قال حينها إن عيادا وصم جبين "العرقوب" بالعار وقد قيل إنه شوهد مع موسيو ديبوا قرب الشلال، قال الناس إن عيادا "خـا......" و"شـكـ......" و"زا......." و"قو......" ... لن يسامح نفسه على سذاجته تلك التي فاقت حدود العبط.
الآن.. لم يعد لسلام شبر واحد من الأرض، أحس أن أخاه أزاحه من طريقه، خاصة وأن عيادا قد صار مقدما للدشر، وصار هو معدما وشبه مفصول عن عمله، سيطر أخوه على الأرض، بعد أن طرد الرجال الأشاوس موسيو ديبوا وعساكره من الناحية كلها، لكن الرجال انشقوا وتفرقوا وتاهوا بعد اغتيال عباس.. صعد عياد وأمثاله إلى "دار القيادة" ووجد سلام نفسه الآن يفكر في الانضمام عاجلا إلى ما تبقى من سباع "أجدير"...
يقبض سلام على قلبه .. سكاكين حادة تمزق دواخله .. لا يدري ما الذي ألم به .. أحس أنه ربما يكون فات الأوان.. سطعت كالشمس أمام عينيه حقيقة واحدة قاتلة .. عياد أخوه الشقيق الأكبر هو عدوه الأول، يسترجع الآن عودته من فاس إلى العرقوب حاملا تعيينه كمعلم، فرحت حينها أخواته وقررن أن يأخذ سلام نصيبه من الأرض القريبة من المدرسة ليبني عليها سكنه ويستقر في الدشر، لكن عيادا سارع إلى وضع يده عليها في نفس اليوم، بكى سلام بحرقة شديدة وصاح في أعماقه " تبا لك عياد ! تبا لي أنا !.. لا أعرف غير البكاء.."، وعندما حاول مد قدمه اليسرى بعيدا عن خيمة العدول وهو يفكر في الالتحاق بأجدير شعر بدوار جارف، سقطت الألف درهم من يده وهو يهوي على الأرض .. كان ثمة حجر ناتئ ارتطم به رأسه...
عبد القهار الحجاري
يذرف سلام حرقته في خيمة العدول، بسوق الخميس الأسبوعي والصباح الغائم نكدته عجاجة رمادية، بلور ناري يسقط على ذقنه، سلام لم يكبر، بقي قلبه طفلا، كان في صباه يتسلق صخور الوادي العميق والسفوح الشديدة، ليقطف لإخوته من الدوالي في تلك الأرض الوعرة عناقيد شهية، وكان أخوهم الأكبر عياد يأخذها منهم بالمكر والحيلة.
يفرغ عياد كؤوس الشاي التي بلا طعم ونعناعها بلا رائحة في براد صغير صدئ، يميل ولا يكاد يستقر على صينية ألمنيوم بالية، يصبه من جديد فيها وهو ينظر إلى العدلين ثم إلى السجل، حيث دون عقد المبايعة بخط مغربي أنيق وبصمغ بني باذخ، ووضع أمام سلام على طاولة صغيرة واطئة ليوقعه :
- لست مجبرا على هذا .. ادفع مصاريف العدول وهيا ننصرف ! أنت أخي، ولا أريدك أن تفعل ما يؤلمك ويحزنك !
تبين لسلام الآن أن عيادا أخاه ربما كان فعلا متعاونا مع موسيو ديبوا وعساكره وكان لا يزال يافعا، يذكر الآن كيف حذر كثيرون والده وكانت "تميمونت" أمه قد ماتت قبل ذلك بسنوات، وقيل إن عيادا آلمها كثيرا بتصرفاته الخرقاء وسمعته السيئة، قالوا إنه ولد متملق للمحتل، مقامر بحياته وبالدشر والقبيلة، وحذروه من المقاومين رجال عباس الذين يسيطرون على مرتفعات "أكنول" و"بورد" و"تيزي ن وسلي" ويمكنهم أن يصطادوه أينما وضع قدمه بسهولة، وقتئذ لم يصدق سلام ما راج عن أخيه.. همس كأنه يحدث نفسه :
- ليس هذا اتفاقنا.. اتفقنا أن أبيعك حقي من الوالدة، والعقد يقول من الوالدين معا رحمهما الله.. حقي كاملا بألف درهم؟! هل هذا اتفاقنا؟
انتفض عياد كديك رومي هائج، وهم واقفا يهدد بالانصراف :
- أنت الذي أردت أن تبيع حقك.. أنت من يريد لا أنا !
أمسك سلام برأسه قبل أن يمسك بالقلم.. وقع بمرارة، وخيل إليه أن رأس القلم صار مشرطا يجز أوصاله ويذبح وريده، فيما كان أخوه يرسم ابتسامة صفراء تشي بابتهاجه الباذخ، أدرك سلام الآن أن عيادا لا محالة هو المستفيد الأكبر من كل المصائب التي حلت به، منذ تعييه معلما في العرقوب، بدءً من المشاكل التي لا يدري إلى الآن كيف تهاوت على رأسه من سكان الدشر وآباء التلاميذ خاصة .. والإشاعات المغرضة التي لاحقته .. قالوا إن سلاما ابن الفقيه لا يدخل المسجد، وقالوا إنه صار شيوعيا، يحرض تلاميذه على التمرد، ويزرع في عقولهم الصغيرة البريئة أفكارا خطيرة مسمومة، أشاعوا أن غيابه عن العرقوب لسنوات " فيه إن" وعودته أيضا " فيها إن" .. وخمن بعضهم أشياء غريبة، قالوا إنه لا يريد الزواج، لأنه يعاشر جنية، يلتقيها في أغوار الوادي أو في كهوف الجبل.. أدرك أن عيادا أخاه الشقيق هو المستفيد الأول من قرار التنقيل الذي لحقه وسمي تأديبيا إلى مدرسة نائية بقمة جبل "أجدير"، وتوقيف راتبه الشهري إثر رفضه الالتحاق، وأزمته المادية جراء ذلك، واضطراره إلى الاقتراض، ريثما تعاد إليه حوالته، وعياد لا يقرضه سنتيما واحدا، سلام يقول في قرارة نفسه إنه لم يجد بدا من بيع نصيبه في الميراث لعياد..
لم يستطع سلام أن يتمالك نفسه، فسالت دموع حرى ساخنة على ذقنه، أراد أن يفكر في أشياء أخرى كثيرة، لكنه شعر أن فكره مشوش، أو ربما يكون معطلا، لا يريد أن يفكر في هذا المبلغ الزهيد كيف سيتدبره؟ ألف درهم هل يشتري بها حبلا يشنق به نفسه ؟ حقيقة واحدة لامعة في ذهنه الآن.. عياد سحقه بلا رحمة وهو الذي لم يمنحه غير الحب.. سلام لا زال قلبه مع ذلك طفلا، لا يمكنه أن يكره.. ومع ذلك لا ينسى أنه كَذَّب من قال حينها إن عيادا وصم جبين "العرقوب" بالعار وقد قيل إنه شوهد مع موسيو ديبوا قرب الشلال، قال الناس إن عيادا "خـا......" و"شـكـ......" و"زا......." و"قو......" ... لن يسامح نفسه على سذاجته تلك التي فاقت حدود العبط.
الآن.. لم يعد لسلام شبر واحد من الأرض، أحس أن أخاه أزاحه من طريقه، خاصة وأن عيادا قد صار مقدما للدشر، وصار هو معدما وشبه مفصول عن عمله، سيطر أخوه على الأرض، بعد أن طرد الرجال الأشاوس موسيو ديبوا وعساكره من الناحية كلها، لكن الرجال انشقوا وتفرقوا وتاهوا بعد اغتيال عباس.. صعد عياد وأمثاله إلى "دار القيادة" ووجد سلام نفسه الآن يفكر في الانضمام عاجلا إلى ما تبقى من سباع "أجدير"...
يقبض سلام على قلبه .. سكاكين حادة تمزق دواخله .. لا يدري ما الذي ألم به .. أحس أنه ربما يكون فات الأوان.. سطعت كالشمس أمام عينيه حقيقة واحدة قاتلة .. عياد أخوه الشقيق الأكبر هو عدوه الأول، يسترجع الآن عودته من فاس إلى العرقوب حاملا تعيينه كمعلم، فرحت حينها أخواته وقررن أن يأخذ سلام نصيبه من الأرض القريبة من المدرسة ليبني عليها سكنه ويستقر في الدشر، لكن عيادا سارع إلى وضع يده عليها في نفس اليوم، بكى سلام بحرقة شديدة وصاح في أعماقه " تبا لك عياد ! تبا لي أنا !.. لا أعرف غير البكاء.."، وعندما حاول مد قدمه اليسرى بعيدا عن خيمة العدول وهو يفكر في الالتحاق بأجدير شعر بدوار جارف، سقطت الألف درهم من يده وهو يهوي على الأرض .. كان ثمة حجر ناتئ ارتطم به رأسه...
عبد القهار الحجاري