قطار المفازة



قصة قصيرة

ماتت تلك المرأة التي كانت تقترب من وجهه، لم يعد بإمكانها الآن أن ترطن أمامه بفرنسيتها المتقنة، فيتضايق ويحس بأنها فوق.. فوق.. وهو في الحضيض، كانت تقترب منه حتى لتلفحه بأنفاسها الشهية، تخطو نحوه وكان هو يهرب ويخبئ رأسه في الرمل كنعامة، أو كطفل يرفض أن يغرر به.

هجس الآن أن عقله البدوي قد حال بينه وتلك السكرتيرة الأنيقة إلى الأبد، تطلع إلى ناصية الدرب، كان يراها كل يوم قادمة من هناك، ورأى الآن أن نزعته القدرية قد عطلت شعوره بالحب وأعاقت إحساسه بها. يتمزق حين تقف الآن أمامه.. وحيدا ينشج كثكلى في غرفته، إحساسه عارم بأن وسادته لم تكن خالية إلا بعد رحيلها.

أرادته وفر منها بعنف رهيب، لا يستوعب الآن كيف بدر منه .. هل يمكن أن يكون بهذا الجبن؟ يتساءل مرات ومرات .. هل هو حقا بهذه الخسة؟ قالت له مرة إنها تريد أن تنعم معه بعش جميل، إنها تريده هو، ولا أحد غيره، لا زميلها المتصابي، ولا جارها ذا عيني ذئب، ولا حتى رئيسها الفظ الذي يذوب أمامها.

كان الوقت يسرقها والقطار في المفازة يعبر في لمح البصر. يبكي كطفل مغبون، ضاع منه ما كان يحاول للتو أن يفهمه، سيارتها الصغيرة الجديدة بلونها الوردي الهندي وهي تلوح له من أول الشارع، تجعله يغلق الدكان بسرعة ويمرق في الزقاق، يشعر الآن أنه كان تافها كفأر خائف.. تتبعه إلى جحره، تطرق بابه إلى أن تكل يدها الناعمة من دون جدوى، وتعود أدراجها..

كانت تؤكد له أنه هو الحب، وأنه كل شيء بالنسبة لها وأن كل حياتها ملك يديه، أرادت أن تلحق.. ربما تنجب منه .. ودكانه يصير متجرا كبيرا .. لكنه الآن هنا يبكي، وهي هنالك...

الآن فقط، بدأ يراها تفر منه وهو يلاحقها في كل مرة بباقة ورد أحمر، يعدو خلف سيارتها ذات اللون الوردي الهندي في الشارع العريض الذي لا حدود له، فتضيع منه بين صفوف السيارات وزحام السوابل .. في كل مرة يجري في المفازة خلف القطار من دون جدوى.
عبد القهار الحجاري

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال