خنازير الظلام
قصة
تحت الثريا الفاخرة المتوفزة إلى الأسفل في فضول متيقظ كأن بها توجس.. جلسوا صامتين متحلقين حول مائدة مستديرة خضراء. صلعاتهم العريضة تنضح حمرة تلمع تحت أضواء مصابيحها الصغيرة التي تشبه نجيمات براقة. أياديهم الضخمة تمتد إلى كؤوس رقاق من الكريستال الرفيع مترعة بصنف نادر من الويسكي.. زجاجة ذات عنق ناعم كجيد حسناء ممتلئة.
لا يدري أحد ما الذي يحدث.. أي اعتمال للفكر بهذه الرؤوس الضخمة؟ أو ما الذي يبرر هذه السكينة التي تلف الأجواء؟ الأصابع السميكة تمسك لفافات التبغ البنية الداكنة. يتصاعد سحاب دخانها الذي تنفثه شفاههم بعد أن تسحبه بشراهة. يرشفون.. ينفثون.. يزفرون بعصبية مكتومة.درجات السلم النازل، مبطلة بزليج لامع فاخر. تمر وسطها زربية حمراء ناعمة، مزركشة. ليفضي إلى وسط البناية المؤثثة بتحف نفيسة.. بوق فونوغراف على طاولة صغيرة فاغرا جوفه كحيوان خرافي، إلى جانبه خزانة مزينة بمجسمات صغيرة ومجلدات أنيقة. في زاوية من المائدة المستديرة الخضراء، بار صغير من خشب براق.. خلفه دولاب زجاجي. تتمطى بداخله قنينات ذات أجساد مثيرة، طاجين سلاوي من فخار رفيع فوق رف.. لوحات زيتية كبيرة على الجدران. تماثيل فوق طاولات صغيرة. أريكة من جلد أسود، أمامها طاولة من رخام. أباجورة كبيرة في إحدى الزوايا.. ونباتات ما من أحد يدري إن كانت تتمتع بالحياة أم مجرد ديكور. منها المتدلية والصاعدة. السقف السامق منقوش ليطفئوا نارا ببراعة.. رأس وعل ضخم بقرونه المتشعبة.. يتوسط الجدار المقابل للمدخل.. كل شيء هنا يبهر العين. وأشياء أخرى ما من جنس كائن له القدرة على وصفها، كما يعجز الراوي الآن- كأي راو يمكن أن يحضر إلى هنا- عن تصوير دواخل هؤلاء المتحلقين حول هذه المائدة الخضراء. صامتون، شاردون، مذهولون. أنفاس مشحونة، محتقنة، محرقة لا تحتمل. دخان اللفافات السميكة. هواء متوتر، ملوث ومكتوم. قعقعات مكعبات الثلج وهي تؤخذ من إناء فضي بممسك طويل. وتوضع في الكؤوس الرقاق. كل واحد منهم له قفى كبطيخ أحمر متجعد. أبدان ضخمة. كروش متدلية تحت الطاولة. ينظرون في الفراغ، يدخنون..يصبون ويشربون، ليرتووا أو ليطفئوا نارا.. أو ربما ليؤججوا حرقة يستلذون بلظاها وجوههم ذات شكل واحد؛ دائرية منتفخة فاتحة البياض. خدود مكتنزة حمراء ملامح بليدة أو ربما هي كذلك من فرط دهاء يثوي خلفها. ذقون حليقة. دون شوارب. شيء ما يضيع في تفاصيل هيئاتهم المتماهية. هل هي الأناقة المغرقة في البداوة؟ أم شكل الكتل اللحمية المعلوفة؟ أم اعتمال القلق والحيرة داخل رؤوسهم؟ أم إحجامهم عن الكلام؟ أم كل هذه الأشياء مع بعضها.
يحدقون في الفراغ جميعهم. ينفثون الدخان. يقعقع الثلج في الإناء الفضي. وفي كؤوس الكريستال الرفيع. يغرغر الويسكي الفاخر ذو اللون الأحمر العسلي حين يتحرر من الزجاجة. وينداح من ثغرها في الكؤوس ليزج به في هذه الأجواف. ويتيه في دهاليز كثيرة وممرات ومنعرجات لا يعرف أين ستنتهي به. هؤلاء يحررون المشروب من حبسة الزجاج، ليزجوا بكل قطرة منه في مواسير بطونهم. فأي سعادة لهذا الفاخر في هذه الرحلة؟
وقفوا كلهم فجأة حين رن الهاتف الثابت فوق البار. هرول أحدهم بجسمه المكتنز فطارت بلابل الثمالة. سرى تيار بارد في أوصالهم. دبت فيهم رعشة واضطراب حين أخذ المكتنز السماعة. وطفقت يده الأخرى تمسح عرق وجهه بمنديل أبيض.
- آلـو ..
- ....ه
- نعم سيدي!
فغرفاه. ترك السماعة تسقط من يده. جال ببصره في أرجاء الصالة. نظروا مثله ببلاهة. وفي حركة واحدة بطيئة خلعوا المعاطف والسراويل والأحذية ثم القمصان والملابس الداخلية. كل شيء. حتى التبان! كتل لحمية علفت ردحا. أجساد مدللة. بشرة بيضاء. لم تعرف حرا ولا قرا. كروش متهدلة..صدور متدلية. أسوت ضخمة هبر. هبر. وقفوا ليس عليهم حرج. أشياؤهم متدلية. لم يحرك أحد منهم ساكنا. وضعوا ركبهم على الأرض برفق. ثم أكفهم. تقدموا مصطفين يمشون على أربع نحو باب الحديقة. فتح أولهم الباب. نزلوا الدرجات القليلة. تقدموا إلى العشب النضر. تفرقوا بين الأزهار والأشجار تحت أضواء أعمدة النور الحديدية القصيرة. نبشوا بأصابعهم تربة النباتات غرزوا أنوفهم داخل الحفر الصغير، سحبوا الجذور بأسنانهم. أخذوا يمضغون ويزدردون. وكانت قطرات دم قان تنز من الجذور وتسقط من أفواههم على الأرض وهم يأكلون ويمتصون..
من مجموعة خنازير الظلام، الطبعة الأولى، 2006، الطبعة الثانية 2011، مؤسسة مقاربات، فاس
#عبد_القهار_الحجاري