سقوط أجوف



    من أين وإلى أين أخرج ؟! ثمة شيء غريب يحدث الآن.. شيء ما ينقصني..أكاد أشعر بأنني أجوف. انتبهت مشدوها..جسدي عار إلا من صدرية. الناس يمشون في كل ناحية، لايحفلون بي. وجهي يأكله حرج شديد. الدم يتدفق إلى رأسي غزيرا ساخنا. لكنهم لا ينظرون إلي.. ربما لا يرونني.. واصلت لا أعلم إلى أبن؟!
      تلك القاعة مختلطة، رجال ونساء، لا يكفون عن الثرثرة والابتسام والضحك. ثمة رجل في ركن ما، يكوي فستانا باذخا، لا يكون حتما إلا لامرأة فاتنة. يستعمل مكواة يدوية من حديد، يضع بداخلها جمرا لاهبا يأخذه بيده من سطل كبير بهدوء وبلا تحفظ. يتلمظ  ويفحفح وهو يمرر المكواة السوداء الساخنة في الأماكن المثيرة من الفستان، بعد أن يرش عليها ماء من فمه. يفعل ذلك بارتياح، دون أن يتوجس من أحد.
      لازلت عاريا.. كنت أنسى ذلك أحيانا.. وكلما تذكرت، اشتعل وجهي خجلا ودق قلبي كطبل وغى روماني. لكنني شعرت بنوع من الارتياح، لأن لا أحد نظر إلي لحد الآن. لم تحفل بي سوى امرأة فارعة الصدر. كانت بجانبي. لم تكن تمر بين جسدينا ذرة هواء، وهو موجود في الغرفة، كنت أرى الناس يتنفسونه. هي تلتصق بي عن عمد، أو هكذا أحسست. ربما أكون أنا من أراد أن يتحرش بها، لست أدري. شقت فستانها في الصدر وأخرجت ثديا كبيرا. كان يتمسك بها ولد تعدى سن الرضاع، لا يفتأ يمتص حلميتها بشبق.. يحتج عليها حين تغفل عنه، ويحملق في بكراهية. كانت تسترق النظر إلي، أو هكذا اعتقدت، إذ كنت أريد ضبطها متلبسة وهي تنظر إلي، لكنني لم أفلح.. في كل مرة أفاجئها بلفتة، أجد عينيها شاردتين في اللاشيء، تحملان حيرة وذهولا. فكرت أن أترك المكان توا. فتوجست خيفة أن ألفت نظر هؤلاء القوم المندمجين في جوهم الحميمي. وأنا الغريب بينهم أريد الانصراف من هنا.
     أحدهم يدور بين الحاضرين بصينية مشروبات، وآخر يقف وسط المكان، يحمل سبحة تين مجفف ضخمة. رحت أنظر إليها وقد شدني اشتهاء عارم لها. فإذا بها تستحيل ثعبانا ضخما.. أخذ الرجل يداعبه.. نظرت راجفا حولي، وفي جسدي العاري، فلم أر من يحفل بي، ولا من يكترث لما يدور أمامي.
       تلك المرضعة لم تفارقني وأنا أهم بالانصراف. وسمعت أحدهم يصيح مستهزئا : "هات آخر قدام الانصراف!" وبدأ بعضهم يعزف ويغني.. بنبرة ساخرة مشيعة.. ولست أدري إن كانوا يقصدوننا. وضعت يدها في يدي، ولم يعد معها ذلك الطفل الكبير، ففرحت .. "سآخذها إلى البيت، وسيكون ثالثنا الشيطان!.." هكذا فكرت. نزلنا في منحدر طويل غير متعرج. وجدت نفسي وسط رجال ونساء كثر، ثم ما لبثت أن صرت وحيدا. تحسرت لأنني لم أتمكن من ذوق أي شيء لا هناك ولا في البيت.
       كانت قدماي حافيتين، تحت أشعة شمس حارقة، كنت أتسلق صخورا لاهبة وأصطلي بلظاها. العرق يتصبب مني الآن غزيرا، أتسلق بمشقة بالغة. وعندما وصلت أعلى الركام الصخري، رأيت ذلك الثعبان ينسل في جحر غائر. هلعت.. اشتد بي الخوف وأنا أدخل دربا مظلما. ثمة بقعة بيضاء لضوء متسلل من ثقب ما بالسقف. صرت راجفا حين رأيت بقرب البقعة امرأة مسنة، ترتدي بياضا.. تقتعد كيسا، خمنت أنه مملوء قمحا..تتكيء على عكاز بجماع كفيها. دنوت منها، أرقبها متوجسا. فمها مزموم، وجهها مزدحم بتجاعيد دقيقية، سحنتها تميل إلى خضرة متسخة كلون الضفادع البورية. هي نفسها بدت لي كضفدعة كبيرة. سحبت الهواء من أنفها بقوة، وفتحت عينيها فجأة. أصبت بذعر. عبرتني قشعريرة باردة. شعر جسدي كله انتصب كشوك سدرة. واصلت سيري ملتفتا نحوها، وخيل إلي أنني سمعت جرس بغلة القبور. تخيلتها تعدو في الناحية جامحة، وعلى رقبتها طوق يحمل ذلك الجرس.. صرت ألتفت خلفي حتى انتهيت إلى درب أطل من سقفه ضوء النهار.
         حذائي أسود لامع وأنيق. بذلتي زرقاء رسمية. وربطة عنقي باذخة، مع أنني لا أحبها. إنها تضيق الخناق علي.. أحس بأن عنقي تحت رحمة ما. إنها تشبه حبل مشنقة. وجدتني أدخل بوابة كبيرة ذات هيبة. أحسست بأبهة عالية. نزلت درجات قليلة. اعتورني شعور بألفة قديمة مع المكان، من أجوائه وهندسته وكل شيء على الاطلاق.. كأنني عشت هنا في السابق، أو رأيت تفاصيله في لوحة أو فيلم أو حلم حتى.. كان ثمة طريق متعرج، في أسفله حديقة وحوض سباحة فاخر. وصلت آخر الطريق المتعرج المرصوف بحجارة سوداء معشوشبة. وجدت بابا من أبنوس باهر. كان مفتوحا. ترددت قبل الدخول. كانت هناك امرأة وفتاة أنيقتان وسط فناء من العصر الذهبي. بدا لي أنهما كانتا في انتظاري. ضحكت الفتاة، فتحت ذراعيها لي، فعانقتها. ابتسمت المرأة، فبدا لي فيها سحر خاص مألوف.. أقبلت علي بشغف فقبلتها.. تناهى إلي منها كلام لم أتبينه. لكنه كلام أطربني.. كدت أرقص..
      قلت لزوجتي إنني متعب.. وعلي أن أستريح. صعدت إلى غرفتي في الطابق العلوي. نمت.. لا أدري كم من ساعة..
      كان الرجال الذين يرافقونني هم أنفسهم لا يعرفون ما الأمر؟! أحسست بكل شيء يتآكل تحت قدمي وأنا في سطح عمارتي التي ليست قديمة، ولا آيلة للسقوط، لكن شعورا مهولا انتابني أنها ستهوي توا وأسقط معها. سيهوي كل شيء.. وتأكد لي ذلك الآن، وأنا أركب سيارتي.. تبعتهم.. وكانت سيارة أخرى خلفي. وبدا لي اللحظة أنني أدركت من أين وإلى أين أخرج؟!
عبد القهار الحجاري

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال