الهواء والسويداء


نفسٌ ينشرُ الحداد في الهواء ... إنه يسري في الأوصال ويقضي على الفرح.. هكذا فكرت هنا على التلة حيث سۡجّيت جثة أخرى بإحساس بارد منذ الصباح الباكر المكتئب... 
الريح تنوح في الأرجاء الكالحة، والطفلة الجالسة القرفصاءَ حذاءها شاحبةُ الوجه، في خديها مسارُ دموع بقيت آثارُه شاهدةً على الخراب... كانت تراقب أخمص قدمهِ اليسرى وهي تطل من تحت البطانية الرمادية المغبّرة، تستشعر من بياض الأصابع إحساسا صارخا ببرودة مُهيبة، ولأمر ما كنت هنا قريبا من الحوش الحزين، ربما أتى بي التيه، لا أدري ماذا أريد ولا أذكر داعيَ وصولي إلى هنا، جاء للتو بعض الأشخاص، حملوا الجثة وساروا الهوينى في سكينة قاسية، مالت هامات الصنوبر تحت صفير الريح الهوجاء تندب حظ التراب
العاثر، تبكي زهر الشباب، وغير بعيد عن التلة ناح غراب، ربما كان يجهش من حرقته.. قامت الطفلة وتبعت الموكب حائرة، انخرطت في بكاء يدمي القلب سرعان ما جعلته نحيبا يحز العظم عندما نظرت إليها الأعين الذابلة. اقترب مني رجل مسن وهمس لي في شحوب أن علي الانصراف الآن! لم أفهم قصده، لكنه ألح علي وأشار لي بسبابته نحو الجهة الشرقية، وجدتني أسير نحو البنك، طلبت من المستخدم إرجاع بطاقتي التي ابتلعها الشباك، ثم هجست : تبا للديون ! قد ابتلعتنا ، ناداني بعد طول انتظار وناولني البطاقة محذرا بأنني لا أملك رصيدا، وطلبت منه تمكيني من قرض، قال لي بجفاء إنني في اللائحة.. ولا يمكنني الاستفادة من قرض لأن حوالتي تقزمت كثيرا، اللعنة ! أين أذهب ؟ لم يكن في الشارع وجه واحد سعيد، أو هكذا أردت أن أحس كي أرى وجهي في السوابل.. لهاث ما بعده لهاث من دون جدوى حقيقية، يضيع مغزى الحياة في تفاصيله، تموت البهجة في عيون كم رنت نحو أفق جميل.. في كل مرة يمر شخص يحدث نفسه، قلت ربما نكون قد أصبنا في نفسياتنا.. إنه نفس مسموم في الهواء أو مادة وضعت في الماء، كان يقول رجل طوى الدهر ظهره، تطلعت إلى الأفق المخضب بالسواد، انفلتت مني تنهيدة، كان شخص ما يستسمحني ويطلب مني التوقف، لم أحفل به، أنا نفسي كدت أن أقف موقفه الآن، من يدري ما يخبئه الدهر لي في وطن يحيى تحت رحمة الريح ووفق مزاج الغيم، وطن تأكله الغيلان بشراهة..  كثير من السوابل ينظرون إلي، سمعت سيدة تسأل عن حي الكرامة، وبدا لي أن مخاطبها لا يجد لها جوابا، فكرت أن أبادر إلى إجابتها، لكنني توجست من الأمر، ثم ألفيتها قد تقدمت نحوي تريد جوابا، عجزت أو ربما كنت أجهل وجود هذا الحي في وطني، قلت متلعثما في ما معناه إن الهواء ربما يكون مشبعا بحداد وسويداء .. لم أقل لها شيئا، كنت تركتها وانصرفت.. أنا لا أعرف حي الكرامة ولا أعرف غير حي الموساكين وحي بانغلاديش وغار الشاربون ... كنت أحدث نفسي علنا وكل المارة ينظرون إلي، لماذا لم يعرفني أحد في تلك الغرفة الطويلة المعتمة؟ تساءلت بغبن .. حزن ثقيل ينيخ علينا، كآبة قاتلة عميقة أخرست الحاضرين، إنني مخنوق بحبل الغمة لا أشتهي الآن غير لج بكاء، أرغب في تحرير دموعي المحبوسة منذ سنين..أقيمت طقوس الحداد ثم انصرفت عندما قام الناس، كانت هناك بئر في الطريق الغابوي عميقة سوداء لا قرار لها وأخدود غير بعيد عنها، رجال ينتشلون جثثا لشبان نزلوا يبحثون عن خبز أسود، أطلقت عقيرتي بصراخ حاد، لكنني لم أسمع  صوتي، ربما ضاع في أصدائه بين الوهاد والقفار.. كما ضاع صوت الريف بين صمت وحصار، نفس في الهواء أو ربما في الماء يقتل الابتسام، تلك المسنة التي لا تتوانى عن خبزها تقوم بجولتها الليلية تجمع الكرتون، تحزمه وتحمله بمشقة على ظهرها المتعب، أطفال تغتصب زهرتهم في هذا الليل العصيب وأنا لا زلت أتسكع في الدروب أبحث عن خلاص مستحيل.
عبد القهار 

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال