الثقافة المدينية من أقوى تجليات ثقافة المواطنة والوطنية، وبؤسها توصيف لحالة متردية لأنماط التفكير والسلوك البشري وللذهنيات المتحكمة في النشاط المادي والرمزي للإنسان بالتجمعات السكنية الضخمة المدعوة مدنا اليوم، هل نحن أمام ردة ثقافية تعكسها المدينة العربية اليوم بقوة؟ ما هي تجليات هذا البؤس للثقافة المدينية؟ وهل هي ظاهرة محلية أم نتاج للدمار الفكري والمادي الواقع بالمنطقة العربية ومناطق كثيرة في العالم في غمرة استفراد الرأسمالية المتوحشة بالعالم؟
من المؤكد أننا في قلب التحولات العالمية ونجني سلبياتها أكثر من الإيجابيات، خاصة أنه لم يعد هناك ند للنظام الرأسمالي العالمي ولا من رقيب ولا حسيب، بعد كل الحروب التي خاضها ولا يزال إثر انهيار المعسكر الاشتراكي، وما نتج عن هذه الحروب الوحشية من تدمير للدولة الوطنية المستقلة عن دوائر الهيمنة الامبريالية، والسيطرة على ثرواتها النفطية خاصة وإغراقها في التمزق الطائفي (العراق، ليبيا وسوريا الآن)، بتواطؤ سافر للأنظمة الرجعية حتى أصبحت السمة الأساسية للرأسمالية اليوم - رغم الثورة الرقمية وصناعة المعلوميات- القتل والتدمير بدل البناء عبر صناعة الحروب وصناعة الإرهاب، إن تشويه المدن ومسخ ثقافتها لا يقل عن تدميرها بالآلة الحربية وإبادة الهويات الثقافية لا يقل خطرا عن قتل السكان العزل.
مع سيطرة الوسائط الرقمية وتدني المقروئية وتراجع الدولة عن دورها في تعزيز السمات المدنية للمدينة وتخليها عن مسؤوليتها في ترسيخ ثقافة للحاضرة تلائم العصر، وانسحابها من التربية بموازاة انسحاب الأسرة كذلك، ليُترك المجال واسعا أمام الخطاب الثقافي المتزمت، أصبحت المدينة تعاني من سيطرة ثقافة بئيسة سمتها العامة ضحالة الجمال كوعي وتَجَلٍّ مادي ورمزي، ولبؤس الثقافة المدينية عندنا عدة تمظهرات من بينها طغيان الإسمنت وضعف الجمالي في العمارة وغلبة الكمي فيه على النوعي، وانحسار المجال الأخضر، وتدني السلوك العام واستقواء النزعة الذكورية وتكريس اضطهاد المرأة في الأماكن العمومية، وضعف الشعور بالأمن، وتدهور مستوى النظافة وتلاشي الأناقة العامة، والتقليد الأعمى للتقليعات والصيحات الكاسحة خاصة في الزي والحلاقة والطبخ، وسيطرة الإشهار والنزعة الاستهلاكية وشيوع ثقافة التباهي حتى في العبادة، وضحالة الأحاديث والمناقشات وتردي أسلوب إدارة الحوار وتدني تدبير الخلافات بين الأفراد والمجموعات المدينية...
العمران كما عرفه ابن خلدون ليس مجرد عمارة وما تمثله من مبان وطرقات وشوارع... بل هو العنصر البشري أولا، وكيف تنتظم حياته بعيدا عن البداوة التي لم تعد ترتكز على أي أساس مادي صرف، لأن المجتمعات البشرية انتقلت منذ قرون من أنمطة الإنتاج العبودية والزراعية ودخلت اليوم مع الألفية الثالثة عصر التكنولوجية الرقمية، وهي مرحلة موغلة في نمط الإنتاج الرأسمالي الذي صار أكثر شراسة مع نظام العولمة، وأساس البداوة اليوم في مجتمعنا إديولوجي يتمثل في إعادة إنتاج فكرها المعادي للتمدن والحداثة، متجليا في الإديولوجيا الدينية الأصولية التي نشأت قبل عدة قرون ثم أصبحت قوة ضاربة في عصور الانحطاط، وتم إحياؤها وتستمر سيرورة تغذيتها وتقويتها من أجل ضرب أي نهوض محلي أو إقليمي، وينطبق هذا على المدينة العربية التي خربها الإرهاب وفكره الوهابي المتزمت الممتد عبر الحدود وعبر الوسائط الرقمية.
أغلب شوارع مدينتنا اليوم تفتقر إلى تشجير خاصة على جوانبها، بسبب الاجتثاث والقطع العشوائيين، ما يقلل من جماليتها ويضعف هواءها باعتبار الشجرة مصدرا أساسا للأوكسجين في حمأة التلوث المديني جراء الاكتظاظ بوسائل النقل الحديثة المتحركة بالوقود الضار بالغلاف الجوي وبصحة الأحياء، وهو عدو لدود للبيئة، فقد تراجعت ثقافة تشجير المدن لصالح ثقافة الإسمنت الزاحف على المجال الأخضر بالرغم من تنامي الوعي البيئي في العالم، وحتى الكثير من الساحات التي أنشأت حديثا يطغى فيها الإسمنت على التشجير والبستنة. إن غرس أشجار غير ضارة بالأساسات ومجاري الصرف الصحي ووفق معايير هندسية دقيقة من شأنه أن يضفي جمالية أخاذة على المدينة، فضلا عن تقوية المجال الأخضر وهو رئتها التي تمكنها من التنفس الطبيعي الجيد، من بين هذه الأشجار التي أصبحنا نلاحظ اختفاءها التدريجي من شوارعنا وساحاتنا ونلحظ إهمالها إن وجدت أشجار البلوط والسرو والنخيل والخروب...
في مدينتنا اليوم تجد خياما تنصب على عرض الشارع العام، تدق أوتادها بلا رحمة في الإسفلت فتشوهه، خيام تقطع الطريق على مستعمليه لساعات وأيام، وكانت الأفراح سابقا تجرى في قاعات مغلقة أو على السطوح، أما الرصيف فلم يعد ملكا للمارة ولا يمكن لأرباب المحلات أن يتصوروه ملكا لغيرهم، احتلال الملك العام هذا تقف وراءه ثقافة بدوية مشبعة بذهنية الخلاء الذي لا حد له ولا قيمة، وهو امتداد لذات الفرد في الذهنية قبل مدنية. وعندما تمر في الشارع أنت تسمع القرآن الكريم يرتل في مقامه وفي غير مقامه، في كل مكان في التاكسي والحافلة، في المحلات التجارية والمطاعم وفي العربات اليدوية لباعة متجولين كثير منهم قاصرون ونساء منتشرون تجدهم أينما حللت وارتحلت بمكبرات صوت قوية عنيفة تصدر تراتيل وأمداحا وخطبا دينية جياشة لا تخلو من سياسة وإيديولوجيا، إنه "منتج" ديني متنوع مادي من مصاحف وسجادات وكتب وهابية ككتب عذاب القبر وأهواله ونعيمه...وسبحات ومسك وعود أرك وحبة سوداء ... ولا مادي من مسجلات صوتية محفوظة في حوامل إلكترونية والناس كثير منهم لا ينصتون، وفي تناقض صارخ أصبح السلوك العام ظاهرة لافتة بانحرافه عن القيم، منافيا للأخلاق، ونظرا إلى أن هذا الانحراف السلوكي قد أصبح مسيطرا صرنا نعيش بشكل متكرر حوادث غريبة عن مجتمعنا تنتهك فيها الخصوصية الفردية والحريات الخاصة والعامة من خلال اعتداءات سافرة على الناس والإناث بشكل خاص وأصبحت المرأة تعاني من عنف ذكوري غير مسبوق في الأماكن العمومية، وانتشار ظاهرة الاعتداء على الناس بالسلاح الأبيض وسلب ممتلكاتهم (التشرميل)، كنتيجة منطقية لانتشار الفقر والجهل والبؤس الاجتماعي والثقافي، واستشراء تعاطي المخدرات وأقراص الهلوسة (القرقوبي)، وأخذت تتجلى ضحالة القيم أيضا في قلة الاحترام العام، فنحن نكاد نسمع الكلام البذيء في كل مكان ونتفرج من دون تدخل - في الغالب- في الاعتداء على الناس من طرف اللصوص والمشرملين الذين هم أيضا ضحايا لهذه الرأسمالية المتوحشة.
لم تعد فضاءات المدن حافلة بالقراء كما كانت في الماضي، ولم تعد المكتبات العامة تستقبل سوى أعداد قليلة من الرواد، غالبيتهم طلبة وباحثون ونادرا ما يزورها القاريء الشغوف بالقراءة، وكل الإحصائيات تشير إلى تراجع مهول للمقروئية في المغرب والعالم العربي، واستقواء الأمية في حمأة تدهور التعليم، بل إننا نستشعر عداء واضحا للقراءة في بعض الإعلانات التي تمنعنا من اصطحاب الكتاب معنا في بعض المقاهي، وحل محل سلوك القراءة في وسائل النقل والأماكن العمومية التعاطي بكثافة وإدمان لدى كثيرين مع وسائل الاتصال الرقمي خاصة الهواتف الذكية.
نفس ثقافة الخلاء اللانهائي تقف وراء سلوك التبول في الأماكن العامة، وهو أقوى تعبير عن تخلف الإنسان وثقافة بيئته البدوية قبل مدنية، سلوك يكرسه عدم توفر المرافق الصحية في الكثير من الفضاءات العمومية الحضرية. إن النظافة العامة في تدهور خطير، إذ لم تحل مشكلة تراكم القمامات والنفايات بتزويد الأحياء بالحاويات الكبيرة، بل تفاقم الأمر معها؛ حيث صارت تملأ وتفيض وتتراكم الأزبال قربها، إذ غدت تترك دون تفريغ لمدد طويلة دون الحديث عن تراكمها أيام إضرابات عمال النظافة، ويوم عيد الأضحى حيث تعج مواقع التواصل الاجتماعي بصور مثيرة للاستنكار، تمثل قاع انحطاط النظافة العامة في مدننا، إذ تصبح الشوارع والأزقة والساحات مطارح نفايات كبرى لبقايا الذبائح والجلود، ناهيك عن إضرام النار في باحات التجمعات السكنية لشي رؤوس وقوائم الخراف باستعمال فحم الخشب ما يزيد من تلويث الغلاف الجوي، ومثل هذه السلوكات تعكس انحطاط ثقافة الفرد وضحالة إحساسه بالمسؤولية إزاء المجال البيئي المحيط به داخل المدينة وخارجها أيضا حيث يعتدي على الغابات والشواطئ والأنهار بإلقائه نفاياته السامة أينما حل أو ارتحل.
تراجعت الأناقة بشكل مهول خاصة عند النساء، لأن الذوق العام تدنى نتيجة لتزايد سيطرة النظرة الدونية تجاه المرأة وهي نظرة مغرقة في التخلف، تقوت عندنا في العقود الأخيرة جراء هيمنة النزعة الذكورية المرتكزة إلى الفكر السلفي المتزمت، فالزي لدى النساء صار فضفاضا أكثر وداكنا أكثر، وكل ما يمكن أن يبرزه لباس المرأة هو "عورة" يجب سترها في عرف مجتمع ذكوري متسلط آخذ في الاغتراب عن عصره بمغالاة شديدة لم يسبق لها مثيل في التاريخ، مستمر في الانغماس في استلاب ماضوي مقيت، حتى صارت العلاقة بين اللباس والجسد عدائية قمعية يقوم فيها الأول بدور الرقيب أو السجان بالنسبة للثاني، في حين أن الأناقة بالمعنى الدقيق جمالية تتأتى من تناغم اللباس مع الجسد، واللباس ذو وظيفة جمالية وليس مجرد ثوب خيط لإخفاء الأجزاء البارزة والضامرة على حد سواء، من أجل الامعان في اضطهاد المرأة جنسيا وإعدام كيانها كإنسان، وفي ذلك تكسيح وإعطاب لمجتمع تواق بطبعه نحو التحرر، مع العلم أن الكبت والرقابة والحجب كلها إجراءات لا تؤدي بالضرورة إلى العفة كما يدعي منظرو الذكورية، وفي غياب رقابة العقل وقيام التربية على أساس قمعي يغيب الحوار والإقناع لصالح التسليم الأعمى، يصبح الكبت حافزا قويا على اقتحام المدنس والانحراف عن السلوك القويم
ويطغى على غالبية الشباب اليوم اهتمام فج بالمظهر والشكل؛ ومن دون وعي بالتقليعات والصيحات، وهي غالبا موضات التمرد في الغرب على الاستيلاب في بيئة اجتماعية وثقافية مختلفة ليسقط أصحابها في استلاب مقيت، بحيث لا تخلو من خلفيات إديولوجية مع إهمال المضمون والجوهر، يتنافسون في الحلاقة وتسريحات الشعر والملابس وامتلاك الهواتف الذكية دون امتلاك عمقها العلمي والتكنولوجي متقاعسين عن التنافس في الدراسة والنشاطات المطورة للذكاءات وللكفايات، وصار السلوك الاجتماعي للشباب انطلاقا من الملاحظة اليومية يكتسي الكثير من الرعونة والخشونة واللامبالاة بالآخرين، نلحظ هذا في المؤسسات التربوية وفي الأماكن العمومية، في الحافلات يحتل الشباب المقاعد القليلة، ويبقى الشيب والنساء الحوامل والمرضى واقفين، هذا يشي بضحالة الإحساس بالآخرين وبضعفهم، وبقلة التعاطف الإنساني، ويعود إلى تربية أسرية عاجزة عن توجيه الأبناء والبنات نحو السلوك الأمثل تجاه المجتمع، تربية انسحبت صاغرة، لتترك الشارع والوسائط الرقمية في فوضويتها واكتساحها اللامحدود يتدخلان في تشكيل ذهنيات تافهة أنانية سطحية متمركزة حول الذات، خاصة في تراجع القراءة المهول، وهي السبيل الأمثل لتعميق التفكير والتصور والتثقيف الذاتي والارتقاء بالسلوك الاجتماعي.
أدى اقتصاد السوق في المجتمعات المتأخرة إلى تقوية سلطة الاستهلاك وغرس قيم مدمرة تعيق ارتقاء الثقافة المدينية، وليس التباهي سوى واحدا منها، وهو نتيجة لإشراط الإشهار لسلوك الفرد، وتغلغل ثقافة الاقتناء من أجل المزايدة على الآخرين والظهور بمستوى أعلى في الامتياز الاجتماعي (البريستيج)، وتنافس الأسر في المظاهر، في امتلاك وسائل الأبهة بدل وسائل الراحة الضرورية؛ فيلا فاخرة بدل سكن عاد، سكن ثان وثالث بعد الأول، سيارة فارهة بدل وسيلة نقل ضرورية، التنافس في تعليم الأبناء في أغلى مدارس خاصة بدل المدرسة العمومية التي ليست فاشلة اليوم سوى كنتيجة للاختيارات السياسية المتحكمة في هذا القطاع الحيوي، تغيير الأثاث كل مرة، الإقبال على الشراء من الأسواق الممتازة حتى دون حاجة إلى ذلك... ومن ثم نزل مستوى النقاش الثقافي في الجلسات إلى مستوى أقل، فأصبح التباهي سيد الموقف في الأحاديث الثنائية والجماعية.
إنها ردة ثقافية، يعاني منها مجتمعنا، وتعكسها المدينة بفوضويتها وضحالة جماليتها وتسلط الرأسمال العقاري عليها وتدني السلوك العام وضعف -إن لم نقل غياب-المرفق الثقافي العمومي وتدهور الأمن والأمن الثقافي... وضعف روح المواطنة والوطنية ما يدفعنا إلى الحديث عن بؤس الثقافة المدينية، وهي مسؤولية الجماعات المحلية "الحضرية" التي تشرف على اضمحلال الطابع الحضري للمدينة حتى أفقدتها الحس الجمالي والثقافي، إذ غرقت في الفساد المالي والإداري، وتركت المدينة تغوص في الهامشية الثقافية وفي مختلف مظاهر التردي لتفقد رونقها وبهاءها وترضخ لسلطة الرأسمالية المتوحشة التي حولت الفضاءات الجميلة إلى علب إسمنتية خانقة... إذ لا يهمها سوى مراكمة الثروة على حساب الإنسان وحياته في المدن التي صارت بعيدة عن المدنية وموغلة في التلوث والفقر والقلق والجريمة وفخاخ الاستيلاب.
وجدة / المغرب
منشور بمجلة كتابات معاصرة العدد 105