تقديم
◙◙ يعتبر العمل الأدبي مفتوحا على التأويل والقراءات المتعددة من وجهة نظر النقد المعاصر، تتفاعل فيه حمولات النص الجمالية والدلالية بتذوق القارئ واستراتيجيته في إنتاج الدلالة، وفقا لمنظوره الخاص المحكوم بتجاربه وخبراته ومشاربه الفكرية والثقافية والجمالية... وتتمتع القصة القصيرة جدا بإمكانيات أكبر للتدليل، باعتبارها جنسا أدبيا ذا خصوصية نابعة من اقتصادها اللغوي ونزوعها نحو الترميز والتكثيف والإضمار والتلميح وتفادي التفصيل والتوسع، والقفز على الدقة في الوصف والسرد، والابتعاد عن الحوار الطويل والتداعي الحر المسهب... وهي من خصائص أجناس أخرى كالقصة والرواية.
تتناول هذه المداخلة جمالية اللاتحديد في ثلاثة قصص قصيرة جدا من مجموعة "عصا موسى" للجيلالي عشي"(1)، وهي على التوالي "دين"، "لحظة تاريخية" و"هواء العالم"◙◙
1- اللاتحديد والدلالة الثابتة
يعتبر اللاتحديد مفهوما مركزيا في جمالية التلقي، ويظهر بحسب إيزر في الفراغات والبياضات التي يتركها النص كي يملأها المتلقي (2)، وينتج دلالاتها عبر عملية التدليل التي تتمثل في عملية بناء المعنى. وتتمثل الدلالة الثابتة في النص المعنون بـ "دين" في معاناة البطل من ظروف مادية صعبة، يشار إليها هنا بالدين وتبعاته، حيث فاجأه طرق شديد للباب ذات فجر، ليجد من يطالبه بتسديد ما عليه.
إننا لا نتردد في وصف القراءة بأنها سطحية، حين لا تمس سوى الدلالة المباشرة التي تتبادر إلى ذهن القارئ من أول وهلة. ويمكـِّنُنا التدليل انطلاقا من تفكيك مواقع اللاتحديد في النص، وإبراز جماليته من الوصول إلى دلالات، ليس من الضروري أن تدخل ضمن مقصدية الكتابة، بل تحددها العلاقة الجدلية التفاعلية للقراءة بالنص القصصي القصير جدا.
ولا يجد القارئ صعوبة في التوصل إلى دلالة العزوف السياسي للمواطنين التي يعبر عنها بكل وضوح نص "لحظة تاريخية"، فمدرجات الملعب غاصة بالمتفرجين، حتى الشخصيات المعروفة حاضرة، لكن قاعة الندوات فارغة إلا من الخطيب الذي يستعد لإلقاء "خطبته التاريخية" وينتظر قدوم الجمهور.
أما في قصة "هواء العالم" فدلالة الإحباط التي تلم بالبطل واضحة، فهو يحس بالاختناق، وهواء المكان لا يكفيه كي يتنفس، وجد البطل متنفسه في القصة القصيرة جدا، لكن هذا الهواء الذي استنشقه منها جعله ينفجر ويتفتت إلى أشلاء متناثرة. تدل هذه الحالة العجيبية في النص عن تفاقم الإحساس بالملل والضيق، في عالم صعب ومرير.
إذا كان كل نص يملي استراتيجيته لدراسة اللاتحديد انطلاقا من خصوصيته الفنية، وبما يمكن من التدليل، فإن قصة "دين" تدعونا للبحث عن اللاتحديد في بنية الحلم، لأنها تستعير آليات اشتغاله. وبما أن قصة "لحظة تاريخية" تستخدم تقنية التعاقب السردي، فإن التدليل سيتركز على هذا المستوى، في حين تتكئ قصة "هواء العالم" على البعد العجيبي وبتوظيف العرف النقدي، ولذلك سيتوسل إنتاج الدلالة فيها بهذين الأسلوبين. وتتم قراءة الدلالة انطلاقا من بؤرة التدليل في كل نص.
2- بؤرة التدليل أو اللاتحديد المركزي
نجد في النص عادة عقدة دلالية محورية متحكمة في عناصره وهي بمثابة مفتاح لفهم وقراءة مواقع اللاتحديد. إنها بؤرة التدليل أو اللاتحديد المركزي الذي تتمحور حوله بقية الفراغات والبياضات. والتدليل La signifiance كما يحدده ريفاتير Riffatereهو عملية إنتاج الدلالة، والبحث في الدلالات التي يمكن أن يتورط فيها النص(3). ويختلف من قارئ إلى آخر، إذ لا يعد معنى النص كمعطى سابق يجب الكشف عنه، بل هو إمكانيات كامنة للقراءة المتعددة، لأنه لا ينطوي على دلالة خالصة كما يؤكد هانس روبرت ياوس(4).
تتحدد بؤرة التدليل في قصة "دين" في ماهية الدين الملغزة التي تحير البطل نفسه. يقول: " كنت أحاول أن أفك لغز هذا الموقف"(5)
وفك هذا اللغز هو مفتاح مواقع اللاتحديد في هذا النص والتي تحتاج إلى تدليل، وتتجلى أيضا في عبارات كثيرة منها:
(طرق شديد، أيقظني، بين النوم واليقظة، فارع الطول، غائم العضلات، عهد بعيد، سالف العهود، جماعة من الناس...)
يكتسي الدين هنا دلالة رمزية، لا يحددها النص، فهو يمثل حدثا رمزيا، تحيل بؤرة التدليل فيه - وتشير إليها مفردة "الدين"- إلى بنية دلالية عميقة ومتحركة، تصل القراءة إليها بالانطلاق من الدلالة الثابتة وبتجاوزها.
تتحدد بؤرة التدليل في نص "لحظة تاريخية" في فعل الانتظار، ويشير الفعل المضارع "ينتظر" المتكرر في التعاقب السردي الأخير المكون من (أ) و(ب) إلى مواقع اللاتحديد في النص والتي تحتاج إلى تدليل، ومنها :
المدرجات، غاصة، الجمهور، المقاعد الأمامية، شخصيات معروفة، كان هو، الفريقان، ميدان اللعب...
فماذا يمثل الانتظار في الواجهتين: الملعب والقاعة؟
تشير جملة "انفجر إلى أشلاء متناثرة" في نص "هواء العالم" إلى تشظي الذات والعالم. وبذلك تكون بؤرة التدليل مستقرة في الفعل "انفجر"، تتمحور حول هذا الفعل المصوت القوي العنيف، بجيمه الانفجارية، ورائه المتحركة ذات الصدى المتردد كل دلالات النص المنتجة عبر ملء مواقع اللاتحديد.
3- بنية الحلم
هناك علاقة وطيدة وتشابه كبير بين آليات اشتغال الحلم وبنية العمل الأدبي، خاصة في القصة(6) ويتماثل النص الأدبي بالحلم أحيانا، كما في قصة "دين" القصيرة جدا في هذه الدراسة.
3-1 سمات الحلم
ونقف عند بعض سمات الحلم في قصة "دين"، كورود أوصاف غريبة (رجل فارع الطول، غائم الملامح)، واستعمال عجيبي للزمان (منذ عهد بعيد، منذ سالف العهود)، وانقطاع الترابط المنطقي في ظهور مفاجئ لجماعة من الناس تطوق البطل إلى جانب الرجل العجيب، ثم اختفاء هذا الأخير من المشهد وانسحابه المفاجئ من الحدث. يدفعنا هذا كله إلى اعتبار النص برمته حلما، بالرغم من أن السارد يحاول أن يوهمنا بواقعية الحدث، بعبارة "أيقظني" الواردة في مفتتح النص:
"عند الفجر أيقظني فجأة طرق شديد على الباب"
كما يريد أن يقنعنا بالجملة الحالية: " وأنا بين النوم واليقظة"
وسواء أكان الحدث في أثناء النوم، أو في اليقظة أو بينهما، فإن القصة عبارة عن حلم زاخر الدلالات.
3-2 الدَّيْنُ في الحلم
يحمل الدَّيْن في الحلم دلالة الذل والمهانة(7). ويمثل البطل وفق هذا التفسير نموذج فرد مهدور الكرامة، ضعيف منغلق على نفسه، مقموع وخائف... ويهيمن على النص هذا الإحساس المهول بالخوف والهلع والمهانة، يدل عليه الطرق الشديد على الباب وزيارة الفجر التي ترتبط غالبا بمداهمات البوليس.
3-3 رمزية الدين بين النوم واليقظة
الطرق الشديد على الباب عنف مفزع يستهدف الضغط على البطل كي يهب واقفا من نومه وخموله ويولي قضاياه العالقة بعض الأهمية والجدية. يقول السارد وهو متطابق مع البطل هنا إنه كان بين النوم واليقظة، وبينما تمثل اليقظة الانتباه والاستعداد للمواجهة، يمثل النوم هروبا من هذا الواقع العصيب المثقل بالشعور الدفين بالمهانة وغياب الكرامة. فهو هروب من القلق وحنين إلى الطمأنينة. "فالنوم من وجهة النظر الجسمانية استذكار للإقامة في جسم الأم، كما يؤكد ذلك فرويد "وتتسم حالة النائمين النفسية بانسحاب شبه كامل من العالم المحيط وبإلغاء كل اهتمامه به"(8)
3-4 البعد الاجتماعي السياسي للحدث
ويمثل الرجل العجببي ذو الملامح الغائمة فارع الطول الضمير النائم للبطل وقد أفاق فجأة ليوبخه وهو المتردد بين الهروب والمواجهة، وبذلك يكون البطل هنا رمزا لمثقف الأمة المتخاذل. طالب الرجل البطل بأداء الدين وسبب له بذلك إحراجا حتى أنه جعله يحس بالخجل ثم اختفى، وبقيت جماعة الناس (شيوخ، نساء، كهول، شباب وأطفال) يصرخون في وجهه. إن هذه التشكيلة الاجتماعية تمثل في هذا النص مختلف فئات وشرائح الشعب وأجياله الذين يعانون من تبعات هذا الدين المزمن. هؤلاء رمز للشعب الكادح الذي يؤدي من كده وشقائه ديون البلد "منذ سالف العهود" بتعبير النص، وهي ديون تثقل كاهل الوطن وترهنه للاستعمار الجديد الموسوم بالعولمة ودوائره المالية المتحكمة فيه.
4- التعاقب السردي والتقابل الضدي
تقتفي القراءة أثر تقنيتي التعاقب السردي والتقابل الضدي كي تنتج دلالة "الانتظار" السلبية، بين ترقب مشهد اللعب وفراغ قاعة الندوات. يتعاقب السرد مع الوصف أو مع التداعي أو مع السرد نفسه، إذا كان ينطلق من حكايتين مختلفتين أو أكثر، أو من حكاية واحدة بروايات متعددة، وفي النموذج المدروس هنا، التعاقب سردي- سردي، بينما يحدث التقابل الضدي بين حدثين متعارضين أو متناقضين.
4-1 تعاقب سردي- سردي
تتألف قصة "لحظة تاريخية" القصيرة جدا من متوالية سردية مكونة من قصتين متعاقبتين (تعاقب سردي- سردي)، تجري كل منهما في نفس الزمان لكن في مكانين مختلفين: الملعب وقاعة الندوات. نرمز للأولى ب (أ) وللثانية ب (ب)، ويتخذ التعاقب الشكل التالي:
أ: في ثلاثة أسطر
ب: ثلاثة أسطر
أ: سطران
ب: سطر + كلمة
4-2 تقابل ضدي
تستفيد تقنية التعاقب السردي هذه من المونطاج السنيمائي، وتخدم عملية المقارنة بين حدثين في تقابل ضدي: حضور الجمهور والشخصيات المعروفة في مدرجات الملعب، حتى قبل دخول اللاعبين؛ وغياب الجمهور عن قاعة الندوات.
4-3 دلالات الانتظار
يحمل الانتظار دلالات الاشتياق والتوجس والترقب والخوف والقلق... لكنه في سياق هذا النص يحمل دلالة سلبية، يطبعها الشوق للتسلية وتزجية الفراغ؛ بالنظر إلى "الأمر الجلل الذي ألم بالبلد".
4-3-1 ميدان اللعب: استقطاب وقيادة
نلحظ هذه السلبية تجاه هذه القضية الهامة التي يلمح إليها السرد، باعتبارها تهم الوطن، من خلال المقارنة بيت التعاقبين السرديين. سلبية الجمهور هنا هي لامبالاة الشعب بما يحدق ببلده من أخطار، وهو غارق في ترقب مشهد اللعب، وهو لعب الكبار، أي "الشخصيات المعروفة" بتعبير النص. وهؤلاء هم – من وجهة نظر القراءة الحاضرة- نخبة الطبقة السائدة المتحكمة في قواعد اللعب. وتشير عبارة "المقاعد الأمامية المزهوة" إلى هذا التحكم والقيادة. وتدل المدرجات الغاصة بالجمهور إلى استقطاب الشعب إلى إديولوجيتها وإخضاعها لسلطتها، ويعبر عن هذه الدلالة خبر كان في عتبة التعاقب السردي الأول (أ) في مستهل النص "كانت المدرجات غاصة بالجمهور". ويتكرر معنى هذه اللفظة (غاصة) في صيغة فعل مضارع في التعاقب السردي الثاني (أ) "كان الجمهور الذي تغص به المدرجات ينتظر".
4-3-2 قاعة الندوات: عجز الانتلجينسيا وانسحابها
أما في الواجهة الأخرى (القاعة)، فيحمل الانتظار دلالة القلق والخوف من فشل اللقاء الذي شرع في تنظيمه الرجل الذي سيلقي "خطبته التاريخية" في الجمهور. إنه انتظار سلبي أيضا، فصاحب الخطبة الذي يمثل الإنتلجينسا لا يذهب لإحضار الجمهور، ولا ينزل من منبره إلى الناس لحثهم على الحضور، أو بمعنى آخر لا ينزل هذا المثقف من برجه العاجي إلى جماهير الشعب لتنظيمهم، وإنما يكتفي بانتظار حضورهم إلى قاعة الندوات، لكنهم لا يأتون، لأنهم يذهبون إلى الطرف الآخر في الملعب، بينما لا ينتظر الآخر (الشخصيات المعروفة) حضور الجمهور إلى ميدانه، لأنه حاضر بالفعل، وموقفه إيجابي لأنه حاضر في الميدان مع الشعب ويقوده، فهو في (المقاعد الأمامية).
تكثف هذه القصة القصيرة جدا أزمة الإنتلجنسيا العاجزة عن القيادة الفكرية والسياسية التي ترمز إليها عبارة "الخطبة التاريخية" وكذا عبارة" الأمر الجلل الذي ألم بالبلد". ويدل فراغ قاعة الندوات على الفراغ الفكري والسياسي الذي خلفته انتظارية هذه النخبة التواقة إلى التغيير.
5- العجيبي والعرف النقدي
يحمل النص توظيفا ذكيا للعرف النقدي باعتباره استعمالا للغة الواصفةMétalangage في بناء النص الأدبي ممثلة هنا في مصطلح "القصة القصيرة جدا"، لتتحول إلى مكون إبداعي يسم اللاتحديد بجمالية متفردة، ومن مواقعه في هذا النص :
هواء العالم، أحس بالاختناق، قصة قصيرة جدا، تطوي كل ذلك الهواء، عبَّ، انفجر...
يرسم النص مشهدا عجيبيا، حين يجعل السارد بطله متعطشا إلى كم هائل غير محدد من الهواء، فيتوق إلى هواء العالم، ليجده في قصة قصيرة جدا، لا يقول لنا النص هل عبَّ منها الهواء قراءةً أم كتابةً، لكنه يفسح المجال للقراءة لقول أشياء كثيرةً، ضمنها حدث الانفجار/ التشظي.
تشظي الذات والعالم، يمثله في النص جنس القصة القصيرة جدا. وهذا موقف فلسفي عميق شبيه بما سجله الفيلسوف المغربي إدريس كثير حين قال:
"لقد حان الوقت لا لتجريب "الأجناس والأشكال الأدبية"، وإنما لاستيعابها، وفهم خلفياتها المختلفة (...) والأقصوصة هي الشكل الأدبي الأقرب إلى مجتمعنا المفتت المحروم من أي وعي جماعي"(9). وإذا كانت الأقصوصة تناسب غياب هذا الوعي الجماعي، فإن القصة القصيرة جدا هي الجنس الأدبي الأكثر تجسيدا للمجتمع المفتت ووعيه الشقي المتشظي.
تعبر قصة "هواء العالم" القصيرة جدا عن وعي شقي نقيض للوعي الجماعي، من خلال أزمة البطل الذي يشعر بالاختناق، ثم ينفجر متشظيا، ويصور العجيبي بمسحة عبثية صادمة هذه الأزمة، باعتبارها نتاجا لمأساوية العالم. يمثل هذا النص انسحاق الفرد واختناقه في عالم معولم فاقد لحريته التي يرمز إليها الهواء، ويعبر عن توقه إلى الانعتاق المفقود في زمن صار الانفجار علامته البارزة.
لقد دمج النص العرف النقدي في لغة عجيبية لافتة، للتعبير عن عمق الدلالة، ومكن من تمرير رؤية للعالم تقف خلف الكتابة وتحمل نظرا نقديا لجنس القصة القصيرة جدا، باعتباره زاخرا بإمكانات هائلة لارتياد آفاق الإبداع الشاسعة.
6- خلاصة تركيبية
سعت هذه المداخلة لقراءة الفراغات والبياضات في القصة القصيرة جدا من خلال ثلاثة نماذج للقاص الجيلالي عشي من مجموعته "عصا موسى" وهي "دين"، "لحظة تاريخية" و"هواء العالم" في ضوء التدليل بمواقع يصمت فيها النص أو يرمز أو يكثف أو يضمر أو يلمح... ونجمل خلاصة هذه الدراسة فيما يلي:
6-1 تعبر هذه النصوص عن نفسها بلغة قصصية غير مغرقة في التنميق وغريب المفردات والجُمل، لا تركب الغموض من أجل توسيع حدود قراءتها وتأويلها، لكنها لا تفصح عن كل شيء، بل تحيل قراءتها إلى دلالات متحركة تتجاوز دلالاتها الثابتة.
6-2 لتجاوز الدلالة الثابتة في كل نص قمنا بتعيين بؤرة التدليل (اللاتحديد المركزي)، فوجدناها في ماهية الدين الملغزة في قصة "دين" القصيرة جدا، وفي سلبية الانتظار في "لحظة تاريخية"، أما في "هواء العالم" فقد لمسنا بؤرة التدليل في فعل الانفجار الذي يكثف دلالة الوعي الشقي الذي تجاوز ألم الاختناق إلى التشظي.
6-3 ارتبط التدليل في كل نص من النصوص المدروسة أيضا بالصياغة الفنية، فاتصل ببنية الحلم في "دين"، ونهض في ضوء التعاقب السردي مع "لحظة تاريخية"، وتفاعل بتوظيف العرف النقدي وتشكيل العجيبي في "هواء العالم".
6-4 قامت القراءة بتأويل مواقع اللاتحديد في القصص القصيرة جدا الثلاثة، وقد تمثلت في بعض سمات الحلم في "دين"، ودلالة الدين في الحلم وعلاقته بالنوم واليقظة، كما ظهرت في دلالات "اللعب" و"الميدان"، وفي الصراع بين اتجاهين، الأول مهيمن والثاني هامشي متقوقع وغير مؤثر، وتجلى اللاتحديد أيضا في ثنائيات مثل: الحضور/ الغياب، والفعل/ الانتظار، والإيجابية/ السلبية، كما وقفنا عليه في مفهوم التشظي من خلال مفردات الاختناق والانفجار والهواء...
6-5 تتوصل هذه القراءة إلى دلالات زاخرة في القصص القصيرة جدا المدروسة هنا، تمتد من البحث عن كرامة الذات مرورا بمساءلة المثقف عن دوره في التغيير، وصولا إلى رسم صورة عجيبية لتشظي الوعي لدى الفرد ومن خلاله في المجتمع في عالم اليوم.
7- متن الدراسة
عند الفجر أيقظني فجأة طرق شديد على الباب. فتحت الباب وأنا بين النوم واليقظة، فإذا برجل فارع الطول، بارز العضلات، غائم الملامح يصرخ في وجهي : "لماذا لا تؤدي ما عليك من الدين؟"
فأجبته وأنا لا أكاد أخفي انذهالي :"أي دين؟".
فقال: "ألا تذكر أني أقرضتك منذ عهد بعيد، قرضا كبيرا لا يمكن أن ينسى ؟".
وبينما كنت أحاول أن أفك لغز هذا الموقف، وأتخلص مما سببه لي من إحراج، وجدت نفسي مطوقا بجماعة من الناس فيها الشيوخ والنساء والكهول والشبان والأطفال يصرخون جميعهم في وجهي:" ألا تخجل من تملصك من دين نحن نؤديه منذ سالف العهود ؟".
بحثت عن الرجل ذي العضلات البارزة والملامح الغائمة، فلم أجد غير الجماعة تطالبني بأداء ما علي من الدين.
كانت المدرجات غاصة بالجمهور. وكانت المقاعد الأمامية مزهوة بحضور شخصيات معروفة في هذا البلد.
وكان هو من وراء المنبر يرتب أوراقه، ويسوي جهاز الميكروفون ويستعد لإلقاء خطبته التاريخية حول الأمر الجلل الذي ألم بالبلد.
كان الجمهور الذي تغص به المدرجات ينتظر دخول الفريقين إلى ميدان اللعب.
وكان هو خلف المنبر ينتظر مجيء الجمهور إلى القاعة.
أحس بالاختناق. تمنى لو كان يملك كل هواء العالم ليملأ به رئتيه. حققت أمنيته قصة قصيرة جدا، لم يكن يعلم أنها تطوي كل ذلك الهواء. فعب منه ما يشاء بغير حساب، لكنه انفجر إلى أشلاء متناثرة غاية في الصغر.
عبد القهار الحجاري
8- هوامش
* قدمت هذه المداخلة في ندوة : جمالية القصة القصيرة جدا بالمهرجان العربي الرابع للقصة القصيرة جدا بالناظور بتاريخ 16 مارس 2015، ونشرت بالملحق الثقافي لجريدة العلم يوم 11 يونيو 2015.
(1) الجيلالي عشي، عصا موسى، قصص، شركة مطابع الأنوار المغاربية، 2009، ص 81، 82، 833، وتضم هذه المجموعة ثلاثا وعشرين قصة قصيرة منها إحدى عشرة قصة قصيرة جدا.
(2) Wolfgang Iser, L’acte de lecture théorie de l’effet esthétique, Pierre Mardaga éditeur, Hayen Sprimont 1997, p 318- 319
(3) حميد لحميداني، القراءة وتوليد الدلالة (تغيير عاداتنا في قراءة النص الأدبي)، المركز الثقافي العربي، ط1 / 2003، ص 71
(4) Isabelle Kalinowski, « Hans-Robert Jauss et l’esthétique de la réception », Revue germanique internationale [En ligne], 8 | 1997, mis en ligne le 11 janvier 2011, consulté le 16 Janvier 2015. URL : http://rgi.revues.org/649
(7) محمد ابن سيرين وعبد الغني النابلسي، معجم تفسير الأحلام، رتبه معجميا وأعده، باسل البريدي، مكتبة الصفاء، أبوظبي، الإمارات/ مكتبة اليمامة، بيروت، لبنان، ط1/ 2008، حرف الدال، ص 414
(10) عصا موسى، مرجع سابق، ص 81
(11) نفسه، ص 82
(12) نفسه، ص 83
9- مراجع:
مراجع بالعربية
1- إدريس كثير. (2008). نهاية المنهج وبداية التأويل.فاس: منشورات مقاربات، ط 1.
2- ابن سيرين والنابلسي.(2008 ) .معجم تفسيرالأحلام، رتبه معجميا وأعده، باسل البريدي، مكتبة الصفاء، أبوظبي، الإمارات/ مكتبة اليمامة، بيروت، لبنان، ط1
3- عشي الجيلالي. (2009). عصا موسى، قصص،.وجدة: شركة مطابع الأنوار المغاربية.
4- فرويد سيغموند. (1979). علم ما وراء النفس،ترجمة جورج طرابيشي. بيروت: دار الطليعة، ط1.
5- لحميداني حميد. (2003). القراءة وتوليد الدلالة(تغيير عاداتنا في قراءة النص الأدبي). بيروت/ الدارالبيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1.
مراجع بالفرنسية
1- Iser, W. (1997). L’acte de lecture théorie de l’effet esthétique. Hayen Sprimont: Pierre Mardaga éditeur.
2- Kalinowski, I. (8/1997, mis en ligne le 11 janvier 2011, consulté le 16 mars 2015.). « Hans-Robert Jauss et l’esthétique de la réception ». URL : http://rgi.revues.org/649: Revue germanique internationale [En ligne