النهوض...

اللوحة للفنانة سارة لعويني

النهوض
قصة قصيرة 

منذ اللحظة التي بدأ يحس فيها بآلام فظيعة في مختلف أنحاء جسمه، وقد بدا أنه يستفيق تدريجيا، هاله رعب حقيقي. أدرك أنه ربما يكون قد لقي بالقوة حتفه. وماهي إلا دقائق وربما ثوان قليلة ويصبح فعلا في خبر كان. لم يشعر بأي اندفاع داخلي ليهب قائما، قبل أن يعرف حقيقة وضعه بالضبط، حتى أنه توجس من تحريك أطرافه التي أحس بسريان نمل كثيف في أوصالها. أتكون تلك المخلوقات الدقيقة قد هاجمته بهذه الكثافة و السرعة؟ أم أن الأمر لايعدو أن يكون مجرد تنمل بسبب المكوث على وضع واحد لمدة طويلة؟ لا يدري بالضبط كم مر من الوقت وهو منطرح على ظهره وسط هذا الظلام الدامس. وما من أحد يعرف إن كان الآن في قبره أم على أديم الأرض. لكنه انتبه فجأة إلى هبات نسيم بارد تلفح وجهه و يديه. أرهف السمع. استشعر ما يشبه الحفيف وسط سكون حي. اقتحمت خياشيمه روائح مختلطة، تمكن من أن يميز منها مع مداعبة موجات الهواء، رائحة أقرب إلى الصنوبر. رجح أن يكون في حديقة أو مزرعة أو ربما في غابة. ضاق في صدره التنفس. فحاول أن يغيث رئتيه من دون جدوى..تطلع بعينين نصف مفتوحتين، إلى الأعلى. فلم ير إلا الحلكة ..لا يستطيع الآن أن يتذكر أي شيء عن هويته. ولا أين هو في هذه اللحظة. ولا حتى ما يحدث له والخطورة التي تتهدده. آلام حادة في رأسه وظهره وأطرافه..ما الذي دهاه ؟ هل هو مدفون في قبر مفتوح قرب شجرة صنوبر؟ ربما يكون قد مات. أو لعله يرى ذلك في منامه. إنه كابوس قد يكون حقيقيا..حرك أصابع يده اليمنى بحذر شديد للتخفيف من حركة النمل. فلمس فخذه الأيمن. أحس بوجع شديد. وتبين له من فرك أنامله التي صارت بها رطوبة وسيلان أن فخذه ربما ينزف. فتح عينيه أقصى ما يمكن، يحاول أن يرى أي شيء .يؤشر له على ما يفيد الحال التي هو فيها. لكن من دون جدوى؛ إذ لم يستطع أن يتبين أي شيء في هذه الحلكة الدامسة. هل سيبقى هكذا ينتظر ولا يدري ما سيلحقه؟ لكنه لا يقوى على الحراك ولا يملك أن يغير وضعه. فأنى له أن يهب واقفا؟! وحتى لو كان بإمكانه ذلك، فهل هو في صورة ما يحدث له؟ ومن أدراه؟ ربما يكون في حركته ما يعجل بنهايته. وهذا النزيف الذي يفتح في جسمه كل النوافذ والأبواب أمام عرمرم التحلل؟ هل سيبقى مكتوف اليدين أمامه حتى يُذهب روحه. احتار في أمره، وراعه هول شديد. راوده شعور أنه مشلول من الداخل وأنه لا يستطيع أن يفعل أي شيء. وليست حيطته وتريثه إلا عجزا عميقا في طويته. تململ قليلا ناحية اليمين. فلامست ذراعه ما يشبه كتلة ملساء معروقة لايدري إن كانت آدمية أم لحيوان، ربما يكون فتاكا. سرت إلى جسمه حرارة لم يتمكن من استشعار ما توحي به تحديدا. فقد انتابه احساس مختلط غامض دغدغ جسمه برغم الآلام التي لا تحتمل. وسرعان ما أخذته رهبة دق لها قلبه كضربة طبل ضخم. خفت حدة الدقات حتى خالها قد غاصت في التلاشي. هم ليحرك يده اليسرى، ليتأكد، فلامس ثانية جسما غريبا مريبا. أيمكن أن يكون ممددا بين ذئاب؟ عبرت تفكيره عشرات التفسيرات لما هو عليه الآن.. من هو؟ إنه لا يتذكر أي شيء عن نفسه.. قد يكون أحد رعاة الخلاء تعرض لحادث خطير. فوجد نفسه طريحا هنا. وسط شياهه الساكنة الممددة إلى جانبه. فقد تكون هذه الأجسام لمواش راقدة .. وخطرت بباله فكرة صعبة. قد تنتشله من هذا الوضع المريب الغامض. وقد تعجل بنهايته؛ النهوض!..هل يقوى على النهوض؟! هجس أنه لا مفر من المخاطرة. لكنه شعر بأنه لا يقدر على الحركة، حتى قبل أن يهم بالمحاولة، سيطر التوجس على أعصابه. فلو صح فرضا ما فكر به، لأصبح مع رفة رمش إربا شتاتا.. من يكون يا ترى؟ أجنديا أم مقاوما طوحت به رحى الحرب فأفاق على هذيان؟..ممدد، جريح، فاقد لذاكرته القريبة والبعيدة. لا يرى إلا الحلكة.. حاول أن يحرك قدميه ليتأكد من انتعال قدميه للحداء العسكري.. لم يقدر.. حاول أن يتحسس رأسه ليلامس الخوذة. فقد أحس فعلا أن ثمة شيء ثقيل على رأسه. لكن يديه بقيتا ملتصقتين بالأرض. وفجأة تصاعد في الأرجاء شخير كالهدير .. أهو صوت حيوان مفترس؟ بات لا يحس بجسده و لا بروحه..جماد ممدد، بل جثمان مسجى. لايملك أن يريد..
لايدري كم مر من الوقت، توقف فيه كل شيء. ردح أم ثوان؟ يشتد عليه الخناق. فيحس بصخرة تنزل ببطء شديد على صدره. إنها النهاية لاشك في ذلك! ثم لا تلبث أن ترتفع تدريجيا. وتعاود النزول.

ـ من أنا يا إلهي؟!

اعتملت دخيلته بهواجس شتى .هل هو حارس غابة أم حطاب أم أسير أم مجرد نائم حذاء زوجته على فراش وثير حط عليه عقاب هذا الكابوس؟!..آلام في كل نقطة من جسده المثخن بالكلوم .هدَّه العياء .استنفر الخوف كل قلبه وأوصاله .. شُدت أعصابه .. أكلته الحيرة .. سيحاول هذه مرة ألا يتملص من الغيبوبة، عله يستفيق على ضوء الصباح. لكنه يتلجلج فزعا لمجرد سِنة. يخيل إليه مرة أنه وقع بين أنياب حيوان مفترس، ينهش لحمه .يدشدش عظمه. وثانية يتدحرج من أعلى جبل .. ويرى طورا مسلحين يمطرونه بوابل من نار. وينظر أخرى في الفراغ الأسود فيرى جسده النحيل معلقا عاريا والسوط يلدغه. حافي القدمين، يجري في مفازة قفر لاهبة الحر.. عرق غزير أم ماء ملوث أم دم يغمره؟ لايدري..

لازال يُحمل من جحيم إلى آخر.. يدعو الله متضرعا إليه أن ينبلج الصبح...
من المجموعة القصصية الثانية "قهوة الروح الجديدة"
#عبد_القهار_الحجّاري #ظلال_وقطوف
الطبعة الثانية 2011


إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال