رونق الوعي ودهشة الكتابة





بقلم عبد القهار الحجاري
نشرت هذه الدراسة بالملحق الثقافي لجريدة العلم ليوم الخميس 26 نونبر 2015
 لا تتخطى الكتابة عتبة المتعة المجانية في كثير مما ينشر هنا وهناك. ويندر اليوم أن نجد وسط الركام كتابة واعية بذاتها وبالعالم والتاريخ. وعندما نُبْهَرُ برونق الوعي وتصعقنا دهشة الكتابة في نصوص كالتي يبدعها قلم أديب من طراز عبد القادر الطاهري، تتملكنا الرهبة، ونحس أننا أمام كاتب حقيقي وكبير بعمق أعماله وقوة إبداعه. ومع ذلك لم ير أول كتاب له النور إلا سنة 2006 وهو مجموعته القصصية "البرتقالة الوحيدة للموتى"(1) ليصدر له في نفس السنة كتاب من الحجم الصغير يحمل قصيدة بعنوان "مارية". ونعزو هذا التأخير أساسا إلى إكراهات النشر الورقي في السابق، بالرغم من تجربة عبد القادر الطاهري الوازنة في الكتابة الأدبية الإبداعية التي ترجع إلى عقد الثمانينيات من القرن الماضي، حيث كان ينشر نصوصه الشعرية والقصصية في منابر عربية بارزة نذكر منها "الناقد" و"الشاهد" و"المنتدى" و"شؤون أدبية" و"الشعر" المصرية ثم "كتابات معاصرة" في فترة لاحقة.
وقد توالت إصدارات عبد القادر الطاهري بعد "البرتقالة الوحيدة للموتى" و"مارية" فجاءت "رسائل غير آمنة إلى آمنة" و"أنت عصاي الكريمة عند اللقاء" والمليحة عزة" في الشعر و"الحب في شارع الماريشال" في القصة، و"من أحرق المراكب؟" في الكتابة المسرحية وله حاليا رواية معدة للطبع

1-            الرونق والوعي والدهشة :
جاء في لسان العرب "والرونق : ماء السيف وصفاؤه وحسنه. ورونق الشباب : أوله وماؤه، وكذلك رونق الضحى..." (2) فالصفاء والجمالية والشباب والنضارة والقوة... هي سمات هذا الوعي الذي تنضح به نصوص "البرتقالة الوحيدة للموتى". ويظهر رونق الوعي في النص القصصي من خلال بلاغة السرد التي تصور جماليته، وتتجلى هذه الجمالية في صدقية لغته وعفويتها وتقدم فنياتها، و"الصورة في بعدها البلاغي أصبحت تمثل الواقع الوجودي الذي تنحدر جذوره من الوعي الإنساني" (3 )
  يحضر الوعي في الكتابة الأدبية الإبداعية باعتباره "قدرة على فهم واستيعاب إشكالية التاريخ وإشكالية الكتابة معا"(4) وليس هذا الوعي عند عبد القادر الطاهري فكرا متعاليا أو متعالما أو صنعة متكلفة، ولا هو بإديولوجيا صارخة أو مباشرَة فجة. ولا هو أبدا بمجرد سخط، فالسخط غضب لا يعدو أن يكون حالة انفعالية ورَدَّة فعل غير عقلانية، لا تنم عن إدراك عميق لجوهر الظاهرة، ولا يرقى أبدا إلى مستوى الوعي. وليس هذا الوعي المبهر الناضح بين ثنايا القص في "البرتقالة الوحيدة للموتى" – وفي كل أعمال الأديب عبد القادر الطاهري- وعيا شقيا خالص الشقاء، كما لا نستجليه هنا باعتباره مقابلا للاوعي بالمعنى السيكولوجي، ولكنه إدراك للذات وتقدير واضح لجدوى الكتابة، ومعرفة بالعالم وتمكُّنٌ من إعادة الصياغة، بلغة الإبداع الأدبي لهواجس ومعاناة الإنسان من الظلم والهامشية والدمار... ، وهو أيضا نظرة ثاقبة إلى التاريخ وتصور متناسق للوجود الإنساني مطرز بقبس من عنت الإبداع ولظى الوجدان الفياض بالصدق الفني، صدق شقاء الكتابة وسعادتها معا يغمران العوالم القصصية في "البرتقالة الوحيدة للموتى"(5)، وعي مشبع بعمق التجربة الإبداعية- الإنسانية مظفور بأكاليل من نور ونار تشكل رؤية متوقدة في ثنايا السرد وتعبر عن نفسها بشعرية متفردة في نصوص المجموعة برمتها، لتخلق دينامية هائلة في التنامي السردي وتظافر آلياته. لكنه ليس وعيا ثابتا جامدا أو منمطا فهو بتعبير سارتر "خذروف خاضع للحركة في النص الأدبي ولا ينبثق إلا من حدث القراءة"(6)
يتجلى رونق الوعي في نصوص البرتقالة في تدفق العواطف والأحاسيس والمشاعر والأفكار بصورة تلقائية، عبر التداعي والحوار والوصف والاسترجاع... وهو في كثير من مواضع المجموعة يكثف استشكالات وجودية، ويبرز بمثابة طرح مستنْفِر ومستَفِز لقلق التساؤل وصوْغٌ محير لقضايا الإنسان العالقة والمقلقة، بما يجعل قراءته مفتوحة ومتعددة، وفي نفس الآن نحس بأنه مثقل بهموم وهواجس تعتمل خلفها رؤية واعية، لها أجوبتها المضمرة الثاوية مفاتيحها في بنى النص العميقة.
يُوَلِّدُ رونق الوعي بلغته المُتَمَنِّعَةِ المُمْتَنِعَةِ هنا وهناك قشعريرة الدهشة الأخاذة. ولا تشكل الدهشة في "البرتقالة الوحيدة للموتى غاية في حد ذاتها، يجري خلفها فعلُ الكتابة السردية، ولا هي مسعى لإبراز الصنعة وكفايات تفجيرها عبر التقنيات والأدوات، ولكنها نتيجة تلقائية للغة قصصية متفردة تقوم على ملكة ومخزون ورؤية وتنهض على عنت ومراس ودربة. إنها "رجة جسدية" بتعبير جيمس ريفرز(7)، أو هي رعشة الذهول أو صعقة كهربية، تبث أحاسيس استثنائية أثناء القراءة وفي نقط معينة من النص ذات وميض فجائي وغبر متوقع، إذ كلما كان الوعي متوهجا برونقه كلما أحدثت الكتابة دهشتها من تلقاء نفسها، ومثلما تحدث في القراءة، فإن الدهشة تظهر أيضا لدى البطل إزاء مواقف تستثير تفكيره وتدفعه إلى الانفعال والتأمل والاستشكال.
يتداخل التداعي الحر والاسترجاع بزمن القص والحوار الداخلي، فتحدث الدهشة من أثر هذه اللغة المحيرة المتمكنة من أدواتها تنبع من الأعماق في سلاسة وتلقائية ويسر. وحين يختلط السرد الحاضر فجأة بالوصف وبالصور المنسابة والأحاسيس الجياشة بالسرد الغائب وبالحوار النفسي للبطل، لا تملك القراءة إلا أن ترتج فجأة.

2-            وعي الكتابة :
يجد الفكر المُوَلِّدُ للكتابة الواعية صدى اعتماله في حرارة المفردة وتَوَقُّدِ الجملة السردية، فهو دينامو اشتغال الوعي في الكتابة وتَنّورُ إنضاجها. إننا نحس بقلقه الخلاق يسري في أوصال النص القصصي في البرتقالة.
 وللعبور رونقه هنا، عبور المقبرة هو تجاوز لإرادة الموت وحالة الدمار المسيطرة على العالم، وتكسير لوضع الجمود واللاحركة التي تشير إليها مفردة "السكينة". وتكتسي المفردات المنثورة هنا كالدرر الباهرة جماليتَها المدهشة : "الخبز"، "الهواء"، "الظلمة"، وترتج القراءة ارتجاجا جميلا في عبارات: "صوت الله فينا !" و"عشب الوطن" و"العيون المفقوءة"...
"عبرنا سور المقبرة القديم. فكرت في كل شيء من جديد ! فكرت في الخبز والهواء والظلمة وصوت الله فينا ! فكرت في الطريق والعيون المفقوءة وحقول الشوك وعشب الوطن اليابس !" ص 42 (قصة : هدية وأشياء أخرى).
كثيرا ما ترجع الكتابة إلى الطفولة مهد الإبداع ومرتع الخيال والحلم والبراءة لتنهل من معينها الذي لا ينضب، من خربشاتها وتشكيلها وتلقائيتها وجرأتها بعيدا عن أية حذلقة لغوية وزلفى منمقة بشتى صروف البيان والبديع، وفي منأى عن أي تجريب مغرق في التقنية المفروضة قسرا على النص. إننا نحس بالسرد في البرتقالة بأنه تارة عزف ورقص للذات المذبوحة على صبابة الصبا أو الثملةِ بشجن السيكا وطورا مسلطن بطرب الراست أو باسمٌ نشوان بفرح النهوند، لكن بأفق إنساني أوسع. فتصير الكتابة عند عبد القادر الطاهري التزاما خلاقا ورسالة فن وحب وسلام ورنوا نحو الانعتاق والكرامة وتوقا للسعادة البشرية، بلغة مبدعة تنم عن موهبة حقيقية.
"كانت هناك خربشات طفولية فوق المقعد رسم حمامة وبندقية وكلمات كثيرة نابية" ص 29 (قصة : ستمطر قططا !!)
لكن رسالة هذه الكتابة الواعية في "البرتقالة الوحيدة للموتى" ليست طوباوية المنزع، ولا هي بمحض تمنيات، بل لها سلاح تتحقق به وتتحصن من المصادرة الخؤونة، وبه تمارس مقاومتها الباسلة. إن هذا السلاح (البندقية) هو "خربشات" الكتابة الواعية بمبادئها وغاياتها تلك الكلمات "النابية" ليس بالمعنى القدحي، ولكنها من منظور قراءتنا ذات "ظفر وناب" كاشفة ناقدة للأوجه البشعة للعالم. والبندقية هنا أيضا رمز لمقاومة الاحتلال والحمامة أيقونة للسلام والمدرسة مشتل لأغراس الوعي والكتابة الواعية، فضلا عن تعلم المهارات والقيم والكفايات والمعارف والعلوم...
ماذا يعني أن تكون الأوراق بليدة؟ هل هذه الاستعارة نقد للكتابة لأنها فجة، لا تنفذ إلى جوهر الأشياء والظواهر؟  أم لأنها كتابة مغتربة عن عالمها، بحكم تعاليها أو تجاوز الواقع لها؟ أم أن نقد الكتابة هذا يريد كشف وعيها الشقي المغرق في هواجس وهموم ذاتية وجمعية سوداوية عاجزة عن تغيير العالم ومجرى التاريخ؟ قد يكون قرار نزول البطل أو خروجه إلى الشارع حاضنِ الناس إقرارا بتقوقع الكتابة ولزومها حبستها في برجها العالي البعيد.
"خنقتني رائحة الأوراق البليدة ودخان السجائر المشاكس. قررت الخروج، أطفأت السيجارة ما قبل الأخيرة، زررت معطفي الأسود الثقيل ونزلت، كانت العمارة وسخة وكان مدخل بابها وسخا وقذرا" ص 27 (ستمطر قططا !!)

3-            وعي الداخل والخارج
تمتطي نصوص البرتقالة صهوة الذات الجامحة القلقة الحالمة، كي تنطلق نحو آفاق أخرى للإنسان والعالم والتاريخ. فباستثناء قصتي "مريم" و"عنترة الصغير" يُنْسَجُ السرد ب"الأنا" ضمير المتكلم وصوت الذات (الداخل) الفاعلة–المنفعلة بالأحداث والتي تحيى وسط قيود وإكراهات ومناخات خانقة. تتوق إلى حريتها وتعبر عن آلامها وآمالها وتحاول أن تسهم في صياغة مفاهيم زمرتها التي ترتقي فكريا إلى مصاف الانتلجينسيا(8) من "حرية" "وانعتاق" و"كرامة" و"تغيير" و"ديمقراطية" و"عدالة"...وهي المفاهيم التي يعبر عنها النقد البنيوي التكويني بالبنى المقولاتية(9)، وهي ليست ظواهر فردية بل ظواهر اجتماعية، ذلك أن عنت الذات نتاج لعلاقات اجتماعية محكومة بالصراع الاجتماعي. ويكثف رونق اللغة القصصية المبدعة هنا سؤال الوجود الموضوعي للعالم وأحقية هذا الوجود بالنسبة إلى الذات (الداخل) الفرد المحكوم بـ"قدرية" هذا (الخارج).
"فتحت النافذة؛ اندفعت شفرات من الهواء البارد إلى الداخل. مددت يدي، ارتاحت مسامي لدغدغات المطر الطفولي، تساءلت من غير سابق تفكير:
-       وبأي حق يوجد هذا الخارج؟ !" ص 14 (وقائع الغرفة رقم 14)
"جال نظري طويلا في مساحات الشارع الفارغ وفي أشجار النخيل الباردة الحزينة وفي السيارات المختلفة ! أصبحت فكرة الاهتزاز يقينا هذه المرة !" ص 47 (الزلزال !)
لكن هذه المفاهيم/ المقولات لا تعبر عنها الكتابة الإبداعية في البرتقالة بصيغة مباشرة، ولكنها تنداح في النص برونق متفرد هو رونق الوعي نفسه، وعي الداخل (الذات) والخارج (العالم) بمفردات وعبارات مثل :
الاحتراق، الهواء البارد، دغدغات المطر الطفولي، الداخل، الخارج، الحق، الشارع الفارغ، الاهتزاز، الزلزال، العالم النتن...
لا يستشير "الخارج" المغلوبين والمقهورين الواقعين تحت رحمته في شيء، ولا يشركهم في شيء. يفرض وجوده بإرادة القوى المسيطرة فيه. لا يحفل بالضعيف ولا يقيم حسابا للصغير. لا حق للمستضعف في التدخل في وجود هذا الخارج (العالم)، وداخلُ البطل (أي ذاته) محكوم بوجود العالم وإكراهاته وجبروته، فلا يترك له غير الحلم:
"رددت بصوت مختنق:
-       لانملك غير الحلم !
-       أي حلم !؟"
" – ربما حلم هذه الليلة أجمل !" ص 61-62 (الحلم !)
"بدا العالم في  هذه اللحظة بالذات حلما خارجا عن إرادة القلب !" ص 45 (الزلزال !)
         يطبق الاصطباغ الرمادي- الرصاصي على أجواء الكثير من نصوص البرتقالة، برمزية قاتلة خانقة تشي بتأزم العالم القصصي للبطل، ويحمل كل دلالات الاختناق والاحتراق والموت البطيء، خاصة في دخان السيجارة وفي لون السماء الذي لا ينذر إلا بالجفاف:
"كان لون السماء رصاصيا  وثقيلا على صدري المضطرب. أحسست بالاختناق. نفثت دخان السيجارة الرمادي بلا اهتمام. تنفست ببطء وتعب. ألقيت بما تبقى من السيجارة بعيدا. همست بصوت كان يشتعل بالفرح وكنت أحس به قريبا مني أكثر من أي وقت مضى
-       ستمطر !
ضحكت بلوعة. رددت وأنا أقيس حجم المسافة التي كانت تفصل بين عينيها وقلبي:
-       ستمطر قططا !" ص 27
تحمل الجملة الانفعالية قدرة عالية على الإدهاش في نصوص البرتقالة، كما تعبر عن دهشة البطل من فكرة مفزعة تلمع في ذهنه فجأة وهو يتأمل فظاعات "العالم النتن" ويلاحظ صمت الفضاء الأخرس الذي لا يحرك ساكنا، والسكون ضد الحركة والتغيير، والسحب السوداء لسيجارة البطل هي ذروة القلق المؤْذي والتلوث القاتل:
"فكرت بصورة عابرة في أشياء مختلفة تحدث في العالم النتن. تطلعت إلى سحب السيجارة السوداء التي كانت تعانق الفضاء الأخرس. رددت بيني وبين نفسي في أسى كبير : من العجب حقا أن يحمل الإنسان في جوفه بذور انهياره !" ص37 (البحث عن أشلاء الجسد المفقود !!)
ما هي الكارثة التي يحملها الإنسان في أغواره ؟ وسينعم بالراحة عندما يتقيؤها ؟ هل هي "بذور انهياره" نفسها؟ أم هي معاناته المركبة الاجتماعية-النفسية والصحية...أم هي تلك الطاقة الجبارة من الدمار والشر التي تختبئ في داخله وتدفعه إلى تدمير نفسه والعالم بالظلم والاضطهاد والعدوان والحروب؟
"ضحكت من صميم قلبي كما أضحك من زمن بعيد، ثم قلت لها وأنا أعاكس عينيها الباسمتين :
-       متى يتقيأ الإنسان الكارثة التي يحملها في أغواره !؟" ص 13 (وقائع الغرفة رقم 10)
إن الموت هنا أيضا تلك الطاقة التدميرية التي تنازع الخير في النفس البشرية. وتوظيف علامات التعجب والاستفهام له دلالته العميقة في البرتقالة، فهي ترتبط بدهشة الانفعال والاستشكال الفكري، سواء في الحوار أو في الوصف والسرد وتداعياته الحرة:
ارتفعت حرارة وجهي فجأة، قاومت جاهدا العياء والتعب الذي أصبح يهددني من الداخل، تساءلت:
-       لماذا نحمل معنا موتنا !؟ " ص 61 (الحلم)
وسواء تحدثنا عن "البذور" أو"الكارثة" أو "الموت"، فإننا أمام حالة "حمْل"، والحمل بذرة في طور التكوُّن، لكنه حمل واهم غير طبيعي، قد يؤول إلى كارثة أو دمار أو موت أو حتى زلزال قد يؤدي إلى تغيير إما أن يدفع بالتاريخ إلى الأمام أو يعود به القهقرى، فالحمل يشمل البذور والكارثة والموت على حد سواء: "يحمل الإنسان في جوفه بذور انهياره"، "يحملها (الكارثة) في أغواره "، "نحمل معنا موتنا ".

4-             وعي التاريخ
لا تقف الكتابة القصصية في "البرتقالة الوحيدة للموتى" للأديب عبد القادر الطاهري عند هموم الذات الفردية والجماعية ، ولا تكتفي بوعي العالم من خلال الحاضر، ولكنها تتخطى ذلك إلى طرق التاريخ العربي وتشريح أعطاله العضالة بلغة سردية مبدعة لها فرادتها النابعة من كفاياتها ووعيها الحاد وبرونق هذا الوعي من خلال تنامي الحدث القصصي وتفاعل الشخوص وتظافر المفردات والتقنيات.
يحضر التاريخ العربي بقوة في البرتقالة، بوعي متوقد متوهج من خلال توظيفه وإعادة كتابة أحداثه اعتمادا على التخييل كما في "عنترة الصغير" وباستلهام "الفتنة الكبرى" كما في "آمنة... أحبك !" وباستشراف الآتي كما في "الزلزال" وبتوظيف أسماء الأعلام المقدسة مثل "مريم" و"يوسف" والبارزة في التاريخ مثل "عنترة" و"معاوية بن أبي سفيان"  الذي تختصره  البرتقالة في "سفيان"...
نقف هنا عند تعبير ذي رونق خاص يسم وعي التاريخ، يمثل فيه فعل المسح رمزا للتغيير وبناء غد أفضل:
"وقف يوسف أمام السبورة وقال:
-       أستاذ ! هل أمسح التاريخ؟" ص 56 (آمنة... أحبك)
يريد يوسف التغيير، بينما يسعى سفيان إلى إضرام الفتنة:
"اقترب مني سفيان في مكر، وهمس:
-       إن يوسف يحرض التلاميذ على الإضراب !" ص 57 وأيضا: "- أستاذ !إن سفيان يعاكسني في الطريق !بكت التلميذة الثانية التي كانت تجلس في المقعد الأول، وهي تقول:
-       لقد قال لي كلاما فاحشا !!" ص 57 (آمنة... أحبك)
ويظهر هذا النزوع نحو الفتنة في إثارة سفيان للشغب داخل الفصل، كأنه يمثل المشروع العدواني المدمر، فيما يريد النص أن يرمز بيوسف لمشروع التغيير المحتمل.
"ضحك سفيان في آخر الفصل، انتقلت عدوى الضحك إلى باقي التلاميذ" ص56 (آمنة... أحبك)
تثوي صرخة التاريخ المغتصب خلف رونق اللغة التي تخفف من بشاعة الصورة، صورة اغتصاب "مريم" و"زبيبة"، وهو اغتصاب للوطن بمباركة القانون (القاضي)، وتواطؤ الطبقة السائدة (السيد) والعسكر (الجندي المتقاعد)، وبضلوع الاختيار التربوي الرسمي (المدرس) والنسق الحقوقي (المحامي). ويمثل شَللُ " زوج مريم الذي "كان مصارعا مشهورا" ضربا للمقاومة التاريخية وسطوة لقوى التأخر على الحرية ومصادرتها إياها لاستبعاد كل نهوض وطني وإجهاض كل تقدم مجتمعي. إن اغتصاب "مريم" التي تمثل رمز الطهارة والعذرية المقدسة وأيقونة المعاناة والصبر والمضي نحو الخلاص هي علاوة على ذلك- في النص – إحالة واضحة على انتهاك فلسطين وكل الأراضي المقدسة واستباحتها من طرف الصهيونية، وأمام أنظار العرب.
"استطرد القاضي الوقور قائلا:
-       وبعد !
-       ولم أستطع المقاومة يا سيدي !" ص 7 (مريم)
ولا يكتفي السرد بحدث الاغتصاب في عمارة "السيد" التي تعمل بها مريم خادمة، حيث يسكن الجندي المتقاعد والمدرس والمحامي، بل يستشرف صيرورة التاريخ نحو مسيرين محتملين :
·       إما استنهاض وانتصار إرادة الانعتاق :
"قال الشاهد الأول:
-       ماتت مريم بين ذراعي زوجها المصارع المشلول، بكى هذا الأخير عليها طيلة الليل، وفي الصباح كان يقتحم العمارة في جنون، ولم يمض أكثر من أربع دقائق  حتى كان قد صرع أربعة أشخاص كانوا لا يزالون في بدلات نومهم !" ص 11 (مريم)
·       وإما انتصار إرادة الاغتصاب:
"قال الشاهد الثاني:
-       إن الرجل الذي دهسته السيارة البيضاء الكبيرة، كان هو المصارع المشهور بعينه !
قال الشاهد الثالث:
-       لقد رأيت الجندي المتقاعد والمدرس والسيد صاحب العمارة والمحامي الشاب وهم يمشون في جنازة مريم وزوجها الذي كان مصارعا مشهورا" ص 11  (مريم)
يصب اغتصاب الوطن في "البرتقالة الوحيدة للموتى" في مجرى التاريخ العربي - وجذوره ضاربة في القِدم – وهو فعل إعاقة لهذا التاريخ وزرع بذور الفوات فيه، حتى لا ينخرط في مسير تصاعدي متقدم ويراوح مكانه في حلقته المفرغة، يشير إليه اغتصاب "زبيبة" وسعي قوى الشر لقتل "عنترة الصغير" أيقونة التحرر من العبودية والاضطهاد في هذه المجموعة القصصية:
"بكت زبيبة في صمت، رددت بأنفاس مختنقة:
-       إنه لا يريد أكثر من حقه في الحياة !
-       إنه يريد حقوقنا !
-       لكم قاسى الويلات منك ومنهم في بطني !
انكسرت نظرات شداد في خبث، وقال بأسى مفتعل:
-       الصفح يا زبيبة !
صاحت في وجهه بجنون إفريقي عاصف:
-       دعه يثأر لي ولنفسه من سنين القهر والعري والجوع والموت الحقير !
أراد أن يلمسها ابتعدت عنه، تشنجت قسمات وجهها الحزين صرخت وهي تحس برغبة قوية في الموت:
-       أين كنت حين اغتصبوني؟ !" ص 20 (عنترة الصغير)
هي صرخة الموت من أجل استرداد الكرامة العربية المهدورة وشرفها المغتصب. وعي ينادي بإعادة كتابة التاريخ العربي، وبناء مستقبل متجاوز للعبودية وأغلالها وللقبيلة وتناحراتها...
ومن أعماق الماضي البعيد يمتد فينا دمار "الغبراء" و"داحس" و"البسوس"، يتناهى إلينا صراخ وأنين وقتال وحروب وهُدَنٌ تنقض وسفك دماء لا يتوقف، ولا يزال هذا التاريخ يعيد نفسه بمأساوية أكثر فأكثر إلى اليوم:
"ومن مسافات موغلة في الظل، كانت تصلني أصداء حرائق وصرخات وموت حاقد كان يزحف من كل جهة !" ص 42 (هدية ... وأشياء أخرى)
"قال جدي : - اللعنة تطارد هذه المدينة منذ زمن بعيد !" ص47 (الزلزال)
هذا التاريخ المشلول كشلل زوج مريم "الذي كان مصارعا مشهورا" تستديمُ فواتَه أيضا المدرسةُ كمؤسسة لم تتمكن من أن تكون تنويرية، لأن سماءها عاقر، تكرس القمع  والخوف والميز والموت البطيء...
"بدا الطريق موحشا كفضاء المدرسة القاتل" ص 55 (آمنة... أحبك !)
ونقرأ أيضا: "تفقدت وميض عينيها البهي، وجدته قد سافر دون إشعار. فقلت من دون تفكير :
-       هذه السماء عاقر مثلي.
لم أنتبه لنفسي. كنت أدخل المدرسة" ص 28 (ستمطر قططا !!)

تتسم اللغة القصصية في "البرتقالة الوحيدة للموتى" للأديب عبد القادر الطاهري برونق باهر على المستوى الفني، وهو رونق الوعي الذي يحقق دهشة النص. وتعود هذه الجمالية بِرجّتها المفاجئة إلى تمكن اللغة القصصية من أدواتها مع صدقيتها الفنية وعفويتها، كما ترجع إلى تعمق الكتابة السردية في البرتقالة وهي تسبر أغوار الشخوص وعوالمها القصصية المثيرة، بفضل تزودها برؤية واعية للكتابة والعالم والتاريخ.  

هوامش



(1)  عبد القادر الطاهري، البرتقالة الوحيدة للموتى، قصص، منشورات الديوان، آسفي، ط1/ 2006
(2 ) ابن منظور، لسان العرب، المجلد العاشر، حرف القاف، دار صادر، بيروت، ط3/ 1414 هـ، ص 128
(3 ) ابراهيم الكراوي، خطاب الحداثة في القصة العربية: مكوناته وآليات اشتغاله، مؤسسة الديوان، ط1/ 2007، ص 59
(4 ) نجيب العوفي، درجة الوعي في الكتابة، دراسات نقدية، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، ط1/ 1980، ص 25
(5)  نكتفي بتسمية "البرتقالة الوحيدة للموتى" في الدراسة الحاضرة ب: البرتقالة
(6) حسن المنيعي وآخرون، المناهج المعاصرة في الدراسات  الأدبية : النقد الوجودي، منشورات وحدة النقد الأدبي المعاصر مناهجه وقضاياه، كلية الآداب والعلوم الإنسانية- ظهر المهراز – فاس، ط1/ 1999، ص 19
(7) جيمس ريفرز، الدهشة في الشعر، ترجمة علي جعفر العلاق، مجلة الأقلام، دار الجاحظ- بغداد، العدد المزدوج 100- 11/ 1981، ص 186
(8) الإنتلجينسيا مصطلح روسي شاع في القرن الماضي في سنوات المد اليساري، ويشير إلى طبقة المثقفين المتنورين الحاملين لمشروع التغيير التقدمي الفكري والثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي...
(9) لوسيان غولدمان، المنهجية في علم اجتماع الأدب، ترجمة مصطفى المسناوي، مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر،  الدار البيضاء، ط3/ 1984، ص 11

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال